بين الطابع والمصعد: رحلة الوزارة أصعب من رحلة السفر

كتب مايز عبيد في “نداء الوطن”:
ليست الطريق من عكّار إلى بيروت أقصر المسافات، بل أطولها تعبًا حين تكون محطتها الأخيرة وزارة من وزارات هذا البلد المُنهِك والمُنهَك.
قد يكون لبنان البلد الوحيد الذي لا يزال يطبّق مركزية إدارية، وبيروقراطية قاتلة. يُجبر فيها طالب من عكار أو من طرابلس أو الجنوب، على النزول إلى بيروت وتكبّد عناء أصعب من عناء السفر، لتقديم طلب ما لدى وزارة التربية أو أي وزارة أخرى.
سأسرد لكم معاناتي مع وزارة التربية وهي صورة عن معاناة أي مواطن آخر. نزولًا إلى بيروت منذ الساعة الثامنة صباحًا، ووصولًا بعد ثلاث ساعات، ظننت أنّ الجزء الأصعب من الرحلة قد مضى. لكنّ الحقيقة أنّ المشقّة الفعلية تبدأ عند بوّابة الوزارة. جئت لتقديم معاملة بسيطة في مصلحة من مصالح الوزارة، وقصدت القلم لتسجيلها، فكان من الضروري أن أضع لها طابع 50 ألف ليرة كما أخبرتني موظفة القلم، التي أرشدتني إلى الطابق 6 فهناك ماكينة وسم الطابع المالي. لم أجد الماكينة في السادس، وهناك طلبوا مني النزول إلى الطابق الأرضي (G) حيث توجد ماكينة الطوابع.
ماكينة واحدة
بعد معاناة المصعد وصلت، وجدت زحمة خانقة: ماكينة واحدة، أمامها ستة صفوف من الرجال والنساء، هكذا نظّمهم الموظف. كانوا يتململون من الوقوف والانتظار القاسي. كان الموظف المشرف على الماكينة، وكلّما اشتدّ عليه الضغط يصرخ: “سكّرت! ما بدي كمّل!” ويترك الناس معلّقين على أعصابهم. أمام هذا المشهد، فكّرت أن أوفّر على نفسي ساعة أو أكثر من الانتظار، خصوصًا أن دوري في آخر الصف. فخرجت من الوزارة أبحث عن طابع في المكتبات المجاورة. اشتريت طابع الـ 50 بـ 400 ألف ليرة، لكن عند عودتي قيل لي: “ما منقبل إلا الطوابع اللي طالعة من ماكينة الوزارة”.إحداهن وصلت إلى الماكينة بعد عناء الانتظار ووسمَت عددًا من الأوراق فطلب منها الموظف دفع 250 ألف ليرة. أخرجت من محفظتها 10 دولارات فقال لها: “ما مناخد دولار… ارجعي جيبي لبناني”.
خلال الوقوف، صادفت شابة من طرابلس جاءت لمعادلة شهادة الإجازة الجامعية. وقفت مثلنا في الطابور، وكانت تخبر زميلتها، أنها وضعت الطابع على صورة الشهادة الثانوية الأصلية. لكن الموظف أعادها من جديد، لتضع طابعًا آخر على النسخة المصوّرة، لتبدأ رحلة إضافية من الانتظار أمام الماكينة.
كما صادفْت أيضًا طالبة من عكّار، كانت تقف بوجه متعب تحمل أوراق تصديق (الكولوكيوم). روت لي أن هذا هو اليوم الثاني الذي تنزل فيه إلى الوزارة، بعدما فشلت في وضع الطابع، لأن الموظف أقفل الماكينة الساعة الواحدة “ومشي”، رغم أن الطابور كان لا يزال مكتظًا بالمنتظرين.
وبين وجوه الانتظار، كانت امرأة تتحدّث عن تجربتها في دولة الإمارات، فقالت: “كل هذه المعاملات وغيرها نحصل عليها في دولة الإمارات (عالتلفون)”.
وعلى الطريقة اللبنانية وخلال الانتظار، يمرّ أمام ناظريك شخصٌ ما، لا يأبه لطابور أو لأدوار. يجتاز الجميع، يؤشّر الطوابع بسرعة ويمشي. من هذا؟ إنه شخص موصى به من أحد مكاتب الوزارة برسالة صغيرة إلى الموظف المسؤول.
نحو مكتب الوزيرة
في الطوابق العليا 12 -13 و 14 – 15، صعودًا نحو مكتب الوزيرة. حاولت أن أسأل عن ملف عالق منذ مدة، بما أنني موجود فأستغلّ الأمر… الصورة ليست أفضل. المصعد بطيء والانتظار طويل، وفي أثناء الوقوف، دار حديث قصير مع مواطن لبناني قادم من ألمانيا، قال لي بمرارة: “كنت في وزارة التربية الألمانية، وصلت متأخرًا ولم أجد الوزير، قالوا لي: لا عاد تعذّب حالك، الوزير بكرا رح يتصل فيك شخصيًا”.
في الطابق 14 قصدت موظفة في قلم الوزارة لأسأل عن إحدى المعاملات وأين أصبحت. عند الساعة 12.15 كان بابها مقفلًا. سألت عنها زميلتها فأجابتني الأخيرة بأنها هنا وستحضر بعد قليل. هذا القليل استمرّ لأكثر من 30 دقيقة، وشارفنا على الواحدة ولم تأت. ورغم أن الدوام الرسمي يمتدّ حتى الثانية. تسأل عن أحدهم، الجواب: “فَلّ”، “راجع بكرا”، أو ببساطة: “مش هون”.
وفي النهاية، جرّبت أن أذهب وأسأل عن الوزيرة. وقفت أمام أمن الطابق، سألته فقال لي: “الوزيرة مش موجودة”… سألته عن أحد المستشارين فقال: “لم يأت بعد”. وخلال تواجدي هناك، جاء رجل مسنّ يرافق ابنته، كان يرغب فقط في نقلها إلى مدرسة قريبة من سكنها لتتمكّن من إعالته. سأله الأمن: “عندك موعد؟”، أجابه بالنفي، فقال له بلهجة صارمة: “ما فيك تلتقي الوزيرة بلا موعد”.
تدخّل الأب: “طيب اعطيني موعد”، فأجابه الأمن: “القصة مش عندي”. فأجابه الرجل: “وهل مكاتب الوزراء مفتوحة فقط للنواب والمسؤولين؟”.
هكذا بكل بساطة يمرّ يومك كله، بين الطريق وأروقة الوزارة، بنتيجة واحدة أشبه بالصفر: “سجلنا الطلب بالقلم”.