إنطباعات في غير محلّها

كتب شارل جبّور في “نداء الوطن”: على رغم الانطباع العام لدى اللبنانيين بأن الأمور في لبنان تراوح مكانها، فإن هذا الانطباع بحاجة للتدقيق والمراجعة، وقد يكون أحد أسباب هذا الانطباع تمسُّك “حزب الله” المعلن بسلاحه ومشروعه، وهذا بالذات شكل محور الانقسام منذ العام 2005، والرأي العام يخشى من تفويت الفرصة مجدداً أمام قيام دولة فعلية.
ومن عايش حقبة ما بعد الحرب، يدرك أن وضع اليد الأسدية على لبنان، لم يحصل بين ليلة وضحاها، على رغم التخلي الدولي عن لبنان وقدرات نظام الأسد العسكرية والأمنية والتماهي السياسي معه، وبالتالي، تم تمدّد السيطرة السورية على مراحل إلى حين تمكّن من أن يحكم قبضته بشكل مطلق ونهائي، فيما كان يستحيل على القوى المناهضة له وقف هذا التمدُّد أو تغيير المعطيات، وأقصى ما كان يمكن فعله آنذاك التعايش تحت السقف الأسدي.
ما يحصل في هذه المرحلة، هو النقيض للمسار الذي سلكه لبنان بعد العام 1991، إذ لم يعد باستطاعة “حزب الله” الانقلاب على المعطيات التي استجدّت ولا وقف اتجاه سيرها. وخياره الوحيد هو التموضع تحت سقفها والتعايش معها. فهناك دائماً مرحلة انتقالية في التحولات التي لا تكون جذرية على غرار إسقاط صدام حسين أو بشار الأسد، وبالتالي، دخل لبنان في عصر جديد، وهو عصر اللبننة بعد زمن طويل.
ما يجدر أخذه في الاعتبار يكمن في التالي:
أولاً، الدور الإيراني الخارجي انتهى عسكرياً قبل أن تجلس طهرن مع واشنطن في سلطنة عمان، وهذا الدور غير قابل للتفاوض ولا للإنعاش، ولم يعد ورقة مقايضة، والورقة الحوثية المتبقية يتم العمل على إزالتها والتخلُّص منها.
ثانياً، كان يكفي أن يسقط نظام الأسد ليسقط “حزب الله” عسكرياً، وكيف بالحري بعد تدمير بنيته العسكرية والإصرار على “استئصال دوره العسكري”، وفقا لتعبير السيدة مورغان أورتاغوس؟
ثالثاً، قوة “حزب الله” كانت متأتية من سيطرته على الحدود مع سوريا وإسرائيل، فكان يعزِّز قوته عن طريق دمشق ليمسك بورقة الصراع مع تل أبيب، وبعد ان أبعد عن الحدود بالاتجاهين فقد وظيفته ودوره وعلة وجوده.
رابعاً، لم يكن أمام السلطة التي نشأت على خلفية الاحتلال السوري سوى تنفيذ الأجندة السورية أو كانت مقتنعة بما تقوم به، فيما السلطة التي نشأت على خلفية التوازن الذي أفرزته حربا الطوفان والإسناد لا أولوية لها سوى تنفيذ الأجندة اللبنانية، الأمر الذي لم يكن متاحاً على رغم خروج جيش الأسد من لبنان بسبب “حزب الله”، ولم يعرف لبنان منذ اغتيال الرئيس رينيه معوض سلطة تنفيذية برأسيها وبيانها الوزاري تتحدّث بلغة احتكار الدولة للسلاح وبسط سيطرتها على جميع الأراضي اللبنانية.
خامساً، لم يوقف “حزب الله” أعماله العسكرية بعد توقيعه على اتفاقية وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني الماضي، والتي نصّت على تفكيك بنيته العسكرية في لبنان كله، التزاما بهذه الاتفاقية كما يدعي، إنما لعجزه عن مواصلة هذه الأعمال، وخشيته من ارتدادها على تنظيمه وبيئته، إذ إن “الحزب” الذي لم يلتزم يوماً لا بالدستور ولا بالقرارات الدولية، وأعلن حروبه من دون العودة لأحد، ولن يلتزم بهذه الاتفاقية ولا بغيرها، وما جعله يلتزم، هو ميزان القوى العسكري، وبالتالي التزم اضطراراً ومجبراً.
سادساً، كان يراهن “حزب الله” على إعادة وضع سلاحه على طاولة الحوار الوطني، وتكفي العودة إلى مواقفه المعلنة التي سلّم فيها بخروجه عسكرياً من جنوب الليطاني ظناً منه أن هذه الخطوة كافية لإرضاء الإسرائيلي والأميركي مقابل احتفاظه بسلاحه شمال الليطاني، ومن دون أن يبرِّر جدوى هذا السلاح بعد ابتعاده عن الحدود مع إسرائيل، ومجرّد الحوار حول السلاح يعني إضفاء المشروعية على هذا السلاح واستمراره إلى الأبد في حوار عقيم لا يصل إلى نتيجة، ولكن مسعاه أحبط بإعلان رئيس الجمهورية أنه دخل في حوار ثنائي مع “الحزب” بشأن حصرية السلاح بيد الدولة، والفارق كبير جداً بين حوار للتمييع وحوار للتنفيذ، أي تنفيذ الدستور والقرارات الدولية باحتكار الدولة وحدها للسلاح.
سابعاً، تمكّنت السلطة الناشئة وبسرعة قياسية من سد الفراغات العسكرية والأمنية والمالية، وإطلاق عجلة العمل الحكومي في ورشة تشمل القطاعات كلها، وإعادة تجسير العلاقة مع الشرعيتين العربية والدولية، وترتيب العلاقة مع الدولة السورية الجديدة برعاية سعودية.
وعليه، فإن الانطباع بأن وضع الدولة لم يختلف عما كان قبل انتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف الرئيس نواف سلام ليس في محله، ومرد هذا الانطباع إلى أنه في الصورة الظاهرة المواجهة حول السلاح ما زالت نفسها، فيما الحقيقة غير ذلك كلياً، لأن هذه الصورة لا تعكس الواقع لا على مستوى المنطقة ولا على مستوى لبنان ولا على مستوى محور الممانعة الذي انهار وتفكّك، ولا على مستوى “حزب الله” نفسه الذي دمِّر وحوصر، فيما الدولة تتمدّد كالأخطبوط في خطوات واثقة وثابتة.