من يعيد إلى المخاتير هيبتهم؟

كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
في مسرحياتهم رسم الرحابنة للمختار صورة مشرقة سامية، جعلوا منه رمزاً للضيعة اللبنانية يحلّ ويربط، يتكلم فتصغي الضيعة لكلامه، يتدخل فيكون لرأيه الفصل. في دفتره كل الأسرار وبين جدران مكتبه تُرسم مسارات وتُكشف خصوصيات. هو المرجعية والحكم وشيخ الصلح، يحل المشاكل ويتدخل في التفاصيل. هو حلقة الوصل بين الناس والسلطات العليا وهو الأمان والثقة… فأين مخاتير اليوم من كل هذه المواصفات؟
تغيّر الزمن وتغيّر معه المختار ودوره، تشتّتت صلاحياته فانتقل بعضها إلى كتاب العدل والبلديات والدوائر العقارية وعفّى الزمن عن بعضها الآخر. بدورهم، تنازل المخاتير عن الكثير من صلاحياتهم، عن جهل أو عن كسل، ليكتفوا بالإجراءات الأساسية البسيطة ويتحول كثر منهم إلى معقبي معاملات في الدوائر الرسمية. تراجع دور المختار وهيبته ووجاهته. مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية والاختيارية، هل آن الأوان لإعادة تحديد دور المختار وصلاحياته وتحديث قانون المخاتير الذي أقرّ في العام 1943 ونقّح في العام 1963؟
في الماضي كان المختار هو الشخص المتعلم في القرية الذي يجيد الكتابة والقراءة، الحكيم صاحب الرأي الراجح والوجيه الذي يملك المال والنفوذ والمعارف. اليوم المرشح للمقعد الإختياري يخضع لامتحان في الإملاء حتى ولو سبق له أن انتخب لدورات عديدة، أو عليه أن يقدم شهاداته العلمية. لا مؤهلات غير ذلك. سجله العدلي لا حكم عليه ومسجل في لوائح الشطب في المنطقة التي يترشح عنها وقد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره. لا سقف لعمر المختار ولا عجز يمنعه من الترشح… أهل القرية أو المحلة لا يُسألون عن صيت المرشح، يمكن أن يبدوا رأيهم لكنه غير ملزم قانونياً، إن اختاروه فهم مسؤولون عن اختيارهم حتى ولو كان صيته السيئ يسبقه: نصّاب، جاهل، مدمن…
وزارة الداخلية لا تتدخل. يُعزل إذا تصرف بخلاف القوانين أي إذا ثبت عليه مثلاً جرم تزوير أو سوء استخدام للسلطة وتؤول المخترة إلى العضو الاختياري الأكبر سناً أو إلى من حاز من الخاسرين أكبر عدد من الأصوات في حال عدم وجود مجلس اختياري. لكن للمختار حصانة والتحقيق الأولي معه يتم عند القائمقام ثم يرفع إلى وزير الداخلية الذي قد يقرر رفع الحصانة عنه إلا في حال ارتكابه جريمة قتل عندها تسقط حصانته. لكن ألا يجب أن يحاسب المختار مثل أي مواطن ويمثل أمام المحكمة إذا طالته اتهامات؟
تشرح مختارة ذوق مخايل جوزيان فارس خليل أن المختار يحلف اليمين أمام القاضي في المحكمة بالمحافظة على القانون وخدمة الجمهورية اللبنانية والحفاظ على أسرار المواطنين والتعاون مع السلطات الرسمية كما يقدم جردة بممتلكاته في إطار قانون الإثراء غير المشروع. وختمُ المختار ختمٌ جمهوري وهو من بين أهم الأختام في الدولة ويحمّله مسؤولية كبيرة رغم أن كثراً من المخاتير غير واعين لها. والدليل على ذلك أنه حين توقفت عجلة الدولة ومؤسساتها في سنوات الأزمة الأخيرة كان المخاتير وحدهم من يصدرون الوثائق ويختمون الأوراق. لا قيد طائفياً للمختار ويتم اختياره حسب العرف السائد في الضيع المختلطة وبالاتفاق بين مختلف مكوناتها. عموماً كل قرية أو محلة يزيد عدد سكانها عن 3000 شخص تتحول إلى مدينة وتقسم إلى أحياء ويجب أن يتم تسجيل هذه الأحياء رسمياً حتى يحق لها بمختار ينتخبه أهل الحي.
مختار بلا راتب
قانوناً، لا يتقاضى المختار أجراً أو راتباً ويعتاش من ماله أو عمله الخاص ولا تسعيرة خاصة للمعاملات التي ينجزها. يحق له ببدل ضيافة كانت قيمته 500 ليرة لبنانية كونه يفتح بيته للزوار. يدفع المختار من جيبه ثمن طوابع المختار والورق والحبر لكنه في المقابل لا يدفع مالية عن مكتبه أو موظفيه ومردوده لا يخضع لأية ضرائب. اليوم صار المختار يتقاضى تعرفة عن خدماته وإن لم تكن شرعية أو محددة من قبل الدولة. “هي سمحة نفس” يقول أحد المخاتير “أو صندوق مار الياس يتبرع داخله المواطن بما يشاء”. لكن أليس الأجدى نفض الغبار عن قانون المخاتير وتخصيص راتب محدد للمختار وفرض تعرفة رسمية محددة لكل معاملة بدل ترك الأمور سائبة يقررها كل مختار على هواه؟
لا شك في أن مخاتير كثراً يرفضون تلقي بدل أتعاب عن المعاملات التي ينجزونها لصالح المواطنين إلا ما حدده القانون مثل تعرفة طلب جواز السفر. لكن، في المقابل، كثر أيضاً يسعرون على ذوقهم ويتقاضون بدل خدماتهم مبالغ قد ترهق كاهل الناس، فتتراوح كلفة إفادة السكن من 5 إلى عشرة دولارات ووثيقة الزواج قد ترتفع كلفتها إلى 100 دولار بحجة أن من صرف مئات الآلاف على زفافه لن تعيقه مئة دولار يدفعها للمختار. لماذا لا يفعّل صندوق المخاتير الذي يعتمد كلياً على مردود طابع المختار ويتم اقتطاع مبالغ منه لتكون بدل راتب للمختار؟ لماذا لا يتم رفع بدل الضيافة إلى نسبة تساعد المختار في تحمل تكاليف مكتبه؟ أسئلة تتطلب نفضة لقانون المخاتير صارت حاجة ملحة.
صلاحيات مجهولة
نعود إلى صلاحيات المختار التي يجهلها معظم المواطنين كما غالبية المخاتير لنكتشف أن للمختار صلاحيات واسعة تطال نواح كثيرة من حياة البشر. لكن للأسف لا أحد يدرّب المخاتير على مهماتهم العتيدة “ولا مختار يعلّم خليفته” كما يقال بل يُترك المختار ليتدبر رأسه فيتعلم من كيسه وقد يرتكب الأخطاء أحياناً أو يجهل طبيعة المعاملات التي يحق له القيام بها وإذا لم يكن “قد حاله” تتضاءل صلاحيته إلى حدها الأدنى.
المختار في وثيقة الولادة قادر على إخراج طفل إلى الحياة حتى ولو كان غير موجود، وإلى توفية شخص قبل أن يتوفاه الله. فهو من يوقع وثائق الزواج والولادة والوفاة والطلاق التي يؤخذ بها في دوائر النفوس. وهو الذي يقدم كل عام تحديثاً للوائح الشطب بإضافة من بلغ الواحدة والعشرين وحذف من توفى. وإضافة إلى طلبات إخراج القيد الفردي والعائلي وطلب جواز السفر يملك المختار في يده ورقة سحرية تحمل عنوان: “إلى من يهمه الأمر” يقدم عبرها أية معلومة يمكن للمواطن طلبها لغرض ما، عن وضعه الشخصي وممتلكاته أو أي شيء يمت إليه بصلة ويضع توقيعه عليها لتتحول إلى معلومة أكيدة يؤخذ بها. ومن صلاحياته مثلاً إعطاء إفادة تعريف اسم فيصبح جوزيف وجوزاف الشخص نفسه ولا يتسبب الاختلاف في كتابة الاسم بمشاكل قانونية له. كذلك يعطي المختار إفادة معيل أو معيلة أو شهادة حسن سلوك أو إفادة محتويات عقار أو طلب توقيف أو تصحيح قيد أو إعطاء إفادة تعريف وغيرها وغيرها من المعاملات .
يمكن للمختار أن يلعب دور ضابط عدلي فيقوم بإجراء محضر في حال حصول جريمة في انتظار وصول السلطات الأمنية المختصة، كما لا يحق لأية سلطة أمنية أن تدخل إلى بيت إلا برفقة المختار. على صعيد القرية أو المحلة يمكن للمختار أن يطالب البلدية بكشوفات مالية ويلعب دوراً في الحفاظ على الصحة العامة وفرض التلقيح على أهل البلدة كما التبليغ عن الأمراض والأوبئة كما حصل أيام جائحة كورونا. كذلك له دور في التعليم والثقافة والفنون حتى أنه يمكن أن يجبر الأهل على إرسال أبنائهم إلى المدرسة أو تعليمهم آلة موسيقية في حال كانت لديهم الموهبة والرغبة في ذلك. وهو الذي يحدد مساحة المشاعات والعقارات القديمة المنسية. حتى النواطير في البلدات تتبع للمختار. فهل يمارس المخاتير كل هذه الصلاحيات؟