حقيقة العيّنة التي أُخذت في العتمة من موقع اغتيال نصرالله
كتبت فتات عياد في نداء الوطن : لم يكد لبنان يلملم “خسائره” من العدوان الإسرائيلي بعد حرب جبهة إسناد غزة، حتى عاد لمواجهة عدوّ الداخل، ألا وهو الفساد الذي نخر كل القطاعات، لكنه هذه المرة تجرأ على تدنيس المجال العلمي، عبر محاولة الإثراء غير المشروع من بوابة الأثر البيئي للحرب.
إدعاء نقيب الكيميائيين جهاد عبود، ضرب إسرائيل للبنان باليورانيوم المُنضّب، على الرغم من نفي الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية ذلك، وهي الجهة الرسمية الوحيدة المخولة والمُجهّزة مختبراتها بكشف هذا العنصر في لبنان، وذهابه عبر “نداء الوطن” لاتهام الهيئة بأنها “عميلة لأميركا وإسرائيل وتتكتم عن الحقائق”، يجعلنا نسأل: هل نحن أمام سيناريو العراق وكوسوفو، أي كارثة التسمم الكيميائي والإشعاعي باليورانيوم المنضب؟ أم نحن أمام “نيو ممانعة” علمية، على غرار ممانعة سياسية تنكّل بمؤسسات الدولة لصالح دويلات وأجندات مخفية؟
“قنبلة” عبود التي ألقاها بوجه اللبنانيين، غير المختصين جميعهم بعلم الذرة، ازدادت “إشعاعاً” خلال حديثه معنا، عن “عيّنة تحتوي على اليورانيوم المنضّب، أخذناها من موقع اغتيال السيد حسن نصرلله، وفحصناها في مختبر في أوروبا”، فكان لا بدّ لنا من الاستقصاء حول المشوار الذي سلكته العينة، ومقارنة نتائجها بنتائج هيئة الطاقة الذرية من المكان عينه.
في هذا الإطار، “تفجّرت” بوجهنا “قنبلة” أخرى، فعبود الذي يطرح نفسه كمخلّص للبنانيين من “سرطان اليورانيوم المنضب”، هو نفسه الخبير الذي بنى القضاء على نتائج فحوصاته لشحنة القمح الأوكراني المتعفن في الجمارك منذ أشهر، فدخل أكثر من 4 آلاف طن من ذلك القمح “غير المطابق للمواصفات”، الأسواق اللبنانية، وأمعاء اللبنانيين، وذلك رغما عن وزارة الزراعة ونتائج مختبرها الرسمي.
بعد العبث بالأمن الغذائي، جاء دور الأمن القومي، مع ادعاء عبود تهريب عينة اليورانيوم المنضب المزعوم من موقع اغتيال نصرلله إلى مختبرات خارج لبنان. ليصبح السؤال الأكثر إلحاحاً: لصالح أي جهة يعمل هذه المرة عبود بعد شركات القمح؟ ومن المستفيد الأكبر من إعلان لبنان دولة مقصوفة باليورانيوم المنضّب؟
لا “شرعية” لبيان نقابة الكيميائيين!
بدأت القصة من بيان “نقابة الكيميائيين” في لبنان بتاريخ 6/10/2024، أكّدت فيه أنّ “إسرائيل ضربت لبنان باليورانيوم المُنضّب”. سرعان ما ردّت وزارة الصحة ببيان، أكدت فيه أن “الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية، (التابعة للمجلس الوطني للبحوث العلمية CNRS، التابع للحكومة)، أكدت أنه “ليس من أدلة على استخدام اليورانيوم المنضب في إعتداءات اسرائيل حتى الساعة”.
بيان نقابة الكيميائيين، افتقر للأدلّة العلمية، فـ “حجم الدّمار واختراق المباني والأرض لعشرات الأمتار”، كان كافياً وحده لـ “يؤكّد أنّ إسرائيل استخدمت قنابل تحتوي على اليورانيوم المنضّب”، كما أنّ البيان الموقّع باسم النقيب جهاد عبود، أغفل أن استعمال اليورانيوم المنضب عادة ما يكون للصواريخ الخارقة للدروع، وليس استعماله ملزما في الصواريخ الخارقة للتحصينات.
كل الكيميائيين الذين تواصلنا معهم أكدوا أن “المكان الوحيد في لبنان المخول رسمياً وتقنياً تحليل الإشعاعات النووية وفحص اليورانيوم المنضب هو الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية، والتي نعتمد نتائجها الرسمية”.
نسأل الدكتور جوزف متى، مدير معهد البحوث الصناعية، عن بيان نقابة الكيميائيين، فيعلق “إذا كان الموضوع متوقفاً على التكهن، فإسرائيل لديها تاريخ من الإجرام. لكن إما نتحزّر أو نعطي إثباتاً على ضربها لبنان باليورانيوم المنضب، ولا إثبات على ذلك، ومع تصريحات الهيئة بخلو عيناتها حتى اليوم في المواقع المستهدفة من اليورانيوم المنضب، ينتهي بحثنا هنا ككيميائيين”.
لكن بيان عبود، أحدث الضجة المطلوبة في الإعلام اللبناني. فليس كل اللبنانيين كيميائيين، ولتثبيت روايته بأي ثمن، بدأ يتحدث عن أخذ نقابة الكيميائيين عينة من موقع اغتيال أمين عام “حزب الله” السابق. فبأي “عتمة” أخذت تلك العينة؟
عبود يكتشف “اليورانيوم غير المشعّ”!
حاجات mental كده!
“نحن أكيدون أن إسرائيل ضربت يورانيوم منضب من العينة التي أخذناها من موقع اغتيال نصرلله” يقول عبود في حديثه لنداء الوطن، مؤكداً أن “الجهاز الذي فحصنا به العينة، لا يظهر نوع اليورانيوم فيها”. وكان هذا التناقض الأول، فبيان نقابة الكيميائيين الموقّع باسمه، كان واضحاً بذكره “اليورانيوم المنضب”، قبل أن يعود هو ليتدارك تناقض كلامه، مؤكداً أن النتائج أظهرت “يورانيوم منضب”.
لكن عدم الصدقية التالية، ستكون “أكثر فتكاً”. إذ يجزم “أن أياً كان اليورانيوم الذي وجدناه، فهو صناعي وعسكري إذ لا وجود لليورانيوم الطبيعي، وكذلك فاليورانيوم المنضب غير مشع لذلك يصعب على الهيئة الذرية كشفه، لأنها لا تمتلك جهاز Gamma spectroscopy”.
ثلاث تلفيقات في جملة واحدة (نفند الأخيرة في الجزء الثاني من التحقيق). نسأله مرة أخرى “هل أنت أكيد؟… ما في يورانيوم من أصل الأرض؟”، ليجيب، “هو موجود في مناجم لليورانيوم حصراً، معروف أين نجدها”.
Rapport isotopique
حقيقتان علميتان نسفهما نقيب الكيميائيين. إذ تعرّف وكالة الطاقة الذرية الدولية، “اليورانيوم كعنصر مشع موجود في البيئة الطبيعية، من بين العناصر الأكثر شيوعاً في القشرة الأرضية، فهو يوجد بكميات صغيرة في كل مكان، في الصخر والتربة والماء وحتى في أجسادنا”.
ويأتي عنصر اليورانيوم (U) في أشكال عدة، تُسمى النظائر Izotop (مثل اليورانيوم 234 واليورانيوم 235، واليورانيوم 238). ونسب هذه النظائر فيه، هي التي تحدد نوع اليورانيوم: طبيعي، منضب، مخصب، أو مختلط… عبر ما يعرف بالـ Rapport isotopique (الذي يظهر النسبة النظيرية الموجودة في العينة من كل نظير).
علما أنّ اليورانيوم المنضّب مشع بنسب أقل من اليورانيوم الطبيعي، وليس “غير مشعّ” كما ادّعى عبود. فهل لهذه الدرجة استغبى الشعب اللبناني؟ أم أن نقيب الكيميائيين “جاهل” بحقائق علمية مطلقة كهذه؟!
نحاول محاورته علمياً بلا جدوى، سائلينه “في أي مختبر أجريتم فحوصات العينة من موقع نصرلله؟”، ليجيب متذمراً “نحن جماعة علم، والكيمياء خبرة، الصحافة الأجنبية أيضاً سألتنا هذا السؤال، لماذا مصداقيتنا لا تتحقق إلا بالبوح عن اسم المختبر؟ أنا نقيب الكيميائيين، وإذا مش مصدقينّي je m’en fous”.
كل هذه الـ”حاجات mental كده”، تسببت بجدال واسع النطاق على غروب واتساب لنقابة الكيميائيين يوم إصدار بيانها. فوفق معلوماتنا، طلب كيميائيون مشاركتهم نتائج المختبر المزعوم، لكنهم قوبلوا باتهامهم بالدفاع عن جرائم إسرائيل.
اللبنانيون أيضا أهل علم، نسأله “لماذا لا تبرزون نتائج فحوصاتكم للرأي العام اللبناني وتواجهون بها الهيئة؟” فيجيب “إذا نقابة المهندسين قالت إن هناك مبنى سيسقط، هل تسألونها من أي مختبر حصلت على النتيجة؟”… متوقعاً من اللبنانيين أن يبصموا له “عالعميانة” بضرب إسرائيل لليورانيوم المنضب، لأن العكس يعني أن “إسرائيل ضربت ماي زهر”، برأيه.
“واحد شيعي أخدلنا العينة”
دعونا نغضّ الطرف عن – جهل – عبود بحقائق علمية ثابتة (أو اعتقاده أن اللبنانيين جاهلون وتضليلهم سهل)، ونركز – علمياً – على نتائج العينة المزعومة من موقع نصرلله، التي “حسبما يَذكر”، أخذت في اليوم الثالث لاغتيال نصرلله.
نسأله كيف دخل فريق نقابة الكيميائيين الضاحية الجنوبية تحت القصف ومن دون إذن من الجيش وكيف تخطى حراسة “حزب الله” المشددة على الموقع، فيقول “مين ما كان فيه يفوت”.
نسأله عن تفاصيل الإعتيان (أخذ العينة)، فيشرح بعدما ضاق بأسئلتنا ذرعاً: “فات حدا… شب من إخواننا الشيعة، علّمه شخص خبير كيف يأخذ العينات، ثم سفّرنا العينة للخارج، مع موظف في أحد مختبرات أوروبا”، مضيفاً “ما حدا سأل بالمطار وما تم تنبيش العينة وما حدا عرف”.
تخيلوا أن هذه العينة (على فرض أن روايته صحيحة وهناك عينة من الأساس): يأخذها شخص غير ذي اختصاص، لا نعرف وفق أي شروط وتقنيات أخذت وحفظت، ولا إلى أي مختبر أخذت، والأسوأ، أنها أخذت من دون إذن من الجيش ثم عبر المطار هرّبت، ودائماً وفق أقوال عبود.
وهذا إن ثبت، ففيه مساس بالأمن القومي للبلاد، كونه يعدّ إطلاعاً لأجانب على نتائج فحوصات مواقع استهداف من قبل إسرائيل، من دون إذن من الدولة اللبنانية.
أهداف نقيب الكيميائيين: تعوا “كبّوا” مصاري!
نوحي لنقيب الكيميائيين أننا صدّقنا رواية ضرب لبنان باليورانيوم المنضب، في محاولة لاستنباط أهدافه من هذه الحملة. ونسأله: ما هو الحلّ الآن؟ هنا ينكشف سره العظيم. يقول “المطلوب، كيف إجو هول الجمعيات يكبوا مصاري لحتى يساعدوا العالم؟ بدو يجي حدا من الأمم المتحدة يمولوا مشروع لتحليل المياه الجوفية والتربة والينابيع، ويزيلوا مواد خطرة مثل اليورانيوم المنضب، المتسبب بالسرطان والإعاقات وليثيوم بطاريات الطاقة الشمسية التي انفجرت”.
فالليثيوم المحروق وفق عبود، يسبب “الجنون”. لكن ماذا عن جنون العظمة إذا ما اجتمع مع أطماع الاستثمار بالحروب والأزمات؟ في السياق، يعلّق أحد موظفي هيئة الطاقة الذرية السابقين بالقول “العالم يتجه اليوم لاستبدال بطاريات الهواتف والسيارات ببطاريات ليثيوم لأنها تدوم لعقود، فهل يعني هذا أننا جميعاً سنصبح مجانين؟”. وعن مزاعم عبود بضرب لبنان باليورانيوم المنضب، يقول “هذه المزاعم déjà vu عام 2006، ونحن جماعة علم، لا نحدث ضوضاء، بل نستند إلى نتائج المختبرات وليس إلى الكلام غير العلميّ ذي الأجندات الخفية”.
دويلة الـ NGO’s
بدوره، يصف رئيس الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية، بلال نصولي، بيان نقابة الكيميائيين، بـ”المعتر”، الصادر عن “فاقدين للأهلية العلمية”، “فلا يمكن لنقيب الكيميائيين إجبارنا على التعامل مع نتائج أخذها في العتمة، هذا إن كانت هناك عينة أساساً”.
ويكشف أن خبرتنا طويلة منذ حرب تموز 2006 مع شركات يهمها أن تبرهن أنه تم استخدام مواد مشعة في الحرب، ليجلبوا التمويل الخارجي بحجة تنظيف هذه الأماكن من اليورانيوم المنضب.
وقتها أخذنا 350 عينة من 150 موقعاً، تم فحصها وفق بروتوكول الشراكة بين مختبراتنا، ومختبرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في سويسرا، ومختبرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا. وأثبتت جميع العينات خلوها من اليورانيوم المنضّب، وأعلنا ذلك في مؤتمر شهير عام 2007.
وينوه نصولي بأننا “منفتحون” اليوم على مشاركة مختبرات أخرى خارجية فحوصات أماكن مستهدفة، لكن وفق الأصول وبعد إذن رسمي من الدولة ووفق بروتوكول الإعتيان العلمي. وليس وفق “القال والقيل” وأخذ عينات في العتمة.
وعن زعم نقيب الكيميائيين، بأن جهاز فحص اليورانيوم المنضب في الهيئة “سعره 80 دولاراً”، يعلّق نصولي “إنه مشحر… يي على حالته”.
(تفاصيل نتائج عينات الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية إلى اليوم، وحجم تجهيزاتها المخبرية التحليلية، ومعلومات جهاز الفحص الذي على أساسه كتبت صحف عن ضرب لبنان باليورانيوم المنضب في الخيام جنوب لبنان عام 2006، تتابعونها في الجزء الثاني من التحقيق).
من يوقف عبود عند حده؟
في العام 2007، وتحديداً بعد مؤتمر الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية بالشراكة مع المنظمات الدولية بشهر، أتى فريق أجنبي تابع لإحدى منظمات نزع اليورانيوم المنضب إلى لبنان بعتاده إلى مطار رفيق الحريري الدولي، فمنعته وزارة الدفاع آنذاك من الدخول، لاعتبار ذلك مساً بالأمن القومي، بعد ثبات خلو لبنان من اليورانيوم المنضب.
مع ذلك، يقول لنا نقيب الكيميائيين وهو رئيس مختبر في الجامعة اللبنانية “لو كنت كاذباً لكان أقالني رئيس الجامعة”. وعبود المستقوي بمراكزه وبينها أنه محلف لدى الجمارك والمحاكم، هو نفسه الخبير الذي عينه القاضي رالف كركبي لإعادة فحص شحنة قمح شركة شبارق (فضيحة الـ4000 طن من القمح غير المطابق للمواصفات، والموزع في الأسواق)، لتأتي نتيجة فحوصات عبود مناقضة لنتيجة فحص عينتين في مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة، أتت “غير مطابقة للمواصفات”، إحداها ثبت وجود عفن فيها، وأخرى رفض المختبر الرسمي فحصها لأنها “مسوسة” وتُسبب تلوث المختبر في حال فحصها، علماً أن تلوثها كان يرى بالعين المجردة.
ومن حق اللبنانيين أن يسألوا اليوم عن كيفية أخذ عبود عينات قمح “مطابقة للمواصفات” من الشحنة نفسها، وهل أخذت أيضاً “في العتمة؟”.
الجهل والفساد: قوة تدميرية هائلة!
“نقابة المهندسين إن عمّرت بيروت في سنوات، قادرة نقابة الكيميائيين على تدميرها في 5 دقائق”. بهذه العبارة التي استخدمها لوصف “دقة علم الكيمياء”، صدق عبود، فالجهل بالعلم يدمّر كل شيء، فكيف إذا ترافق مع الفساد؟
والسؤال للمعنيين اليوم: هل من يوقف تضليل نقيب الكيميائيين جهاد عبود وغيره من لوبي الباحثين عن تمويل لنزع اليورانيوم المنضب للاستثمار بالحرب؟ وهل من يحاسب من أطعموا اللبنانيين خبزاً بقمح عفن ومسوس “غير مطابق للمواصفات”، فيه مادة السموم الفطرية Aflatoxin، المسببة للسرطان؟