لا وقف لإطلاق النار… شتاء عاصف قادم

يقول آموس هوكشتاين في أحدث تسريباته التي وصلت إلى بيروت، إنه باتَ على قناعة بأن هناك إمكانية لإقناع “حزب الله” وإسرائيل معاً بوقف العمليات العسكرية والبدء بمسار مفاوضات حول الوضع على الحدود. ما يبقى مجهولاً، الإنطباع الذي احتكم إليه المبعوث الأميركي في إبداء تلك الإيجابية بظل غياب المعطى اللبناني الواضح والإستعدادات على المقلب الإسرائيلي للبدء بما سمّي “المرحلة الثانية” من العمليات العسكرية.

بالموازاة، ثمة جو سياسي داخلي معين، نشأ حديثاً بفعل تحرّك مجموعة من المسارات والتقاطعات ولّدت تكهنات واسعة بإمكانية التوصل لوقف إطلاق النار، من بينها التطورات التي شهدتها الإنتخابات الأميركية وفوز دونالد ترامب، والحركة الغربية التي سجلت أخيراً تحت شعار الإستثمار في وقف الحرب، وعن دور هوكشتاين واتصالاته. بناءً عليه، طوّر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي موقفه باتجاه تبنّي الفكرة القائلة باحتمال التوصل إلى وقف النار في غضون أسابيع قليلة، وقرّر العمل بموجبها. ومشاركته في قمة الرياض العربية – الإسلامية، تبقى نابعة من تقصّده تمرير الجو اللبناني الموافق على الذهاب إلى مفاوضات يسبقها وقف لإطلاق النار ومحاولة استطلاع ما لدى الدول تلك ومدى احتمالية دفعها قدماً باتجاه دعم الموقف اللبناني.

وقبيل سفره إلى الرياض، كان زوار ميقاتي قد نقلوا عنه ما مفاده أن الجو أصبح مهيئاً بالفعل لبلوع تسوية معينة في الجنوب. وهذا يرتبط بما بلغه من العاصمة الأميركية، تحديداً وساطة هوكشتاين وكلام آخر منسوب إلى مقرّبين من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. لكن الوصول إلى ذلك يحتاج إلى بذل مزيد من الجهود بشكل لا يكون محصوراً لبنانياً بإبداء الرغبة فقط، إنما إرسال إشارات توحي بذلك.

ما فهم أن ميقاتي يرمي إلى إقناع “حزب الله” بتقديم إشارات إيجابية. لذلك اختار عند وصوله إلى مطار بيروت، التوجه فوراً للقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة، أولاً لوضعه في أجواء المداولات في قمة الرياض وما نتج عنها، وثانياً الإستفهام من بري حول أي تطوّر ملموس دخل على موقف الحزب، في ظل غياب آلية التفاوض معه وتولي بري هذا الدور. ولا بدّ من الإشارة بأن الحزب، وفي ظل حالة عدم اليقين من أهداف العدو وما رافقها من تداول أنباء حول احتمالات التفاوض أو تراجع العمليات العسكرية وفي ما بعد الدخول في المرحلة الثانية منها، ليس في وارد تقديم تنازلات بما في ذلك بعثه برسائل في الميدان، تشمل ما يمكن اعتباره تخفيض منسوب عملياته العسكرية بما يشمل قصف المستعمرات والمدن. بدلاً من ذلك، جاءت مواقف الحزب تصاعدية على مستوى الرهان على الميدان وفقاً لما جاء في كلام مسؤول العلاقات الإعلامية الحاج محمد عفيف والتي فُسّرت على أنها تأتي رداً على الألاعيب التي يعتمدها العدو.

ما هو واضح حتى الآن، بعيداً عما يتم تداوله عبر الإعلام، أن الفريقين، أي المقاومة والعدو، ليسا في سباق في ما بينهما للذهاب إلى مفاوضات يسبقها وقف لإطلاق النار، رغم مبادرتهما في سياق إبداء نواياهما الإيجابية تجاهها ولو بشكلٍ محدود، ببساطة لأن الحكومة الإسرائيلية تعتبر أن عملياتها في لبنان لم تنتهِ بعد وما زالت هناك أهداف يجب تحقيقها، وهي تتعمّد تغليف رغباتها بشيء من المكر المشار إليه بالإفصاح عن قرب الإنتهاء من العمليات العسكرية والبدء بالتقليل من أعداد الجنود ومن ثم تسريب أنباء حول مرحلة ثانية من العمليات. في المقابل، فإن الحزب الذي أعرب في أكثر من مناسبة عن استعداده لتطبيق القرار الأممي 1701، يتصرّف على أساس أن الحرب مستمرّة، ويتوقع أن العدو لن يقف عند حد ما حققه الآن، وأن إسرائيل تسعى إلى رسم معالم جديدة لمنطقة الجنوب وفق معادلات مختلفة.

الأهم من ذلك، أن الحزب يعتبر أن الإقتراب من فصل الشتاء يمثل فرصة بالنسبة إليه من أجل إعادة صوغ وتركيب المعادلات عند الجبهة، وأن تضاريس الجنوب وبنيته الهندسية الجغرافية المختلفة عن ميدان غزّة، تخدمه عسكرياً وقد تؤدي إلى إجراء هندسة على المعادلات الراهنة بحيث يتحول مهاجماً لا مدافعاً فقط. وهو يعتبر (أي الحزب)، أن التراجع الإسرائيلي في هذا التوقيت عن خوض التوغلات في الجبهة وملاحظة انكفاء قواته ولو بشكل محدود، يرتبط بالمتغيرات الجوية، ما من شأنه أن يكرس أداءً مختلفاً بالنسبة إلى المقاومة، وهو ما يعني أن المقاومة صاحبة مصلحة، كما العدو، بمواصلة العمليات الحربية.

في هذا الوقت يصبّ العدو جهده المعادي على منطقة البقاع والحدود مع سوريا بوصفها هدفاً استراتيجياً يتمثل في القبض على عنق المقاومة. وهو يعمل وفق مفهوم “قطع الأوصال”، أي أنه يقوم بعمليات عسكرية بعيدة النطاق وفي نفس الوقت متعددة الأهداف. فيرمي إلى قطع التواصل بين البقاع والأراضي السورية من خلال تكريس احتلال جوي للمعابر وفرض سيطرة عليها بالنار، والأمر نفسه ينسحب على الطرقات المؤدية إلى العاصمة وضاحيتها الجنوبية تحديداً عن عاريا والكحالة وعاليه حيث يطبق نفس المفهوم. وفي قرى شمال الليطاني إمتداداً إلى جنوبها، يعمل العدو على إنجاز فصل حربي بين المنطقتين، من خلال الإطباق الإستعلامي الإستخباراتي عبر الإعتماد على السلاح المُسيّر والدرونات، ما من شأنه منع المقاومة من إدخال الإمداد العسكري واللوجستي إلى عمق الجبهة.

في هذه الأثناء تحضر سوريا. وخلافاً لما تم تداوله، فإن زيارة وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي المقرّب من بنيامين نتنياهو، رون ديرمر، لا ترتبط ببحث صيغ من شأنها التوصل إلى تفاهمات حول دور الدولة السورية برعاية روسية في ما تبقّى من عمر الحرب، إنما البعث برسائل إلى دمشق بأن عليها تطبيق جملة من الشروط بما يحقق فصلاً كاملاً مع الحزب، ويمنع بموجبه إيصال المساعدات والإمدادات العسكرية إليه عن طريق دمشق بما يشمل طلب إخلاء النقاط والمواقع التي يشغلها، وإلاّ نقل المعركة إلى داخل سوريا. ويفترض الإسرائيلي هناك أن دمشق لا تمارس “الحياد” الكافي الذي سبق أن أفصحت عنه القيادة الروسية في محاولة رمت إلى تحييد سوريا عن المعركة، إنما دمشق منغمسة في ملف تسليح وإمداد الحزب بشكلٍ واضح.

وتطمح تل أبيب، في المستقبل القريب وعند إبرام أي تسوية، أن تكون روسيا شريكةً في تقديم الضمانات بالإنابة عن سوريا، في مسألة وقف تسليح الحزب إنفاذاً لما يقال إنه قرار دولي متخذ، بما في ذلك تولي موسكو إجراءات في هذا الشأن.

لمتابعة أحدث وأهم الأخبار عبر مجموعتنا على واتساب - اضغط هنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى