إعلان قداسة المسابكيين الموارنة في الفاتيكان اليوم.. طريق الشهادة الإيمانية من دمشق الى عشقوت
قبل ظهر اليوم الأحد، وعلى وقع صدى أجراس حاضرة الفاتيكان، يُكرِّسُ البابا فرنسيس أكليل مجدٍ جديد يُضفَرُ على جبين الكنيسة المارونية مع إعلان الإخوة المسابكيين الثلاثة الشهداء الطوباويين: فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل قدّيسين في الكنيسة الجامعة، استجابةً للالتماس الذي رفعه البطريرك الكاردينال بشارة الراعي، بإسم سينودس الأساقفة الموارنة في السادس من تموز 2022، وتدّبرَه بعنايته مجمع دعاوى التقديس برئاسة الكاردينال مرشيّلو سيميرارو.
التماسُ البطريرك الراعي انسحب أيضاً على الرهبان الفرنسيسكان الثمانية وهم سبعة إسبان ونمساوي والذين استشهدوا مع الإخوة المسابكيين في دمشق على يد مسلّحين مشاغبين إبان الثورة التي اندلعت في العام 1860، فتقرّر تقديسهم إنفاذاً لمبدأ وحدة الشهادة للمسيح من معمودية الماء المقدّس الى معمودية الدم الزكي، فمَن هم القديسون المسابكييون الجدد؟
هم ثلاثة أشقاء علمانيين: فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل، ولدوا في حي مسبك البراني في محلة النصارى بدمشق الذي اشتهر بالأعمال الحرفية، لا سيما صياغة الذهب والفضة وحياكة القماش والتجارة على أنواعها، فعملَ الأخ الأكبر فرنسيس في تجارة الحرير وكان يملك محلاً في خان التُتّن في دمشق، وقد عُرِفَ بنشاطه وحسن إدارته واستقامته فكان موضع ثقة جميع مَن تعاطوا تجارة الحرير في سوريا وفي لبنان أيضاً، يشتري ويبيع بأمانة ويُسدّد المستحقات بصدقٍ ودقّة، فانتدبته البطريركية المارونية لإدارة بعض أمورها المدنية، وولّته عائلات لبنانية من آل الخازن والدحداح والبيطار وأبي اللمع ومراد وطوبيا وطعمه تيسير أعمالها وتصريف منتوجاتها، من هنا كان اختيار الكنيسة الكاثوليكية له شفيعاً “لرجال الأعمال”، وعُرف أيضاً بالجود وغوث الفقراء والمحتاجين والغيرة على بيوت الله مسيحية وإسلامية.
عبد المعطي قضى معظم حياته يعلّم في مدرسة دير الرهبان الفرنسيسكان اللغة العربية، وفي تعليمه كان كثير العناية بشرح مبادىء الدين المسيحي، حاثّاً على حب الله وتجنّب أسباب الخطيئة، ولما تعبَ من التدريس لتقدّمه في العمر فتحَ له أخوه فرنسيس حانوتاً، نقصَ رأسماله بدل أن يزيد لتسامحه في الكيل والسعر خوفاً على “راحة الذمّة” ما استوجب إقفال هذا الحانوت لاحقاً، وقد اختارته الكنيسة شفيعاً “للمعلمين والأساتذة”.
رفائيل وهو الأخ الأصغر للعائلة كان يثابرُ على الصلاة في الكنيسة نهاراً ومع العائلة مساءً، ويخدم باتضاعٍ ووداعةٍ واندفاعٍ بلا حدود واضعاً نُصب عينيه السيد المسيح وأمه العذراء، وهو شفيع “ذوي الاحتياجات الخاصة” كما أعلنت الكنيسة.
ذخائر القديسين الثلاثة ومعهم الرهبان الفرنسيسكان الذين قتلوا في يوم واحد ودفنوا جميعاً معاً في العاشر من تموز من العام 1860 في دير اللاتين في دمشق، استحال التمييز بين رفاتهم لدى الكشف على المدافن، علماً أن بعض المراجع أشارت الى أن “النصارى الذين قُتلوا في “المذبحة العمومية” قد دُفنوا في مغارة خارج المدينة تُدعى لهذا السبب”مغارة الشهداء”، أما الذين قُتلوا في دير الفرنسيسكان فقد دُفنوا معاً في كنيسة الدير نفسها، مع الإشارة الى أن هذه الذخائر عُرضت داخل صندوق زجاجي في كنيسة الدير المعروف بالدير الكبير، ثم في كاتدرائية مار أنطونيوس في مطرانية دمشق المارونية بباب توما (أبرشية دمشق في زمن المسابكيين كانت تمتد جغرافياً من ساحل المتن مروراً بكسروان وصولاً الى الشام) داخل صندوق جديد صُنع من خشب الأرز اللبناني، أما في عشقوت- كسروان، فقد تمَّ العثور داخل المقرّ الصيفي لأبرشية صربا المارونية على رسومٍ ورقيةٍ وقماشيةٍ للأخوة المسابكيين من زمن التطويب مع مخطوتَين يتناولان سيرة حياتهم، فضلاً عن وعاء يحتوي على حفنة من العظام طابقت ما لدى الفرنسيسكان من خليط الذخائر، وتبقى الإشارة الى وجود مدفنين في منطقة رأس النبع في بيروت لأحفاد الطوباوي فرنسيس وعبد المعطي، ما يُعزّز الروابط الروحية والتاريخية بين أولاد القديس مارون في المنطقة، كما في سائر العالم.
“هي رحلة عيش بطولة الفضائل من قبل خدّام الله الثلاثة نحو القداسة من دون حاجة الى إثبات أعجوبة ، على ما يقول راعي أبرشية صربا المارونية السابق المطران غي بولس نجيم ورئيس اللجنة الأسقفية المارونية لقضية الإخوة المسابكيين في لبنان، لكونهم شهداء الإيمان، فهم علمانيون ما يعني أن القداسة ليست وقفاً على الإكليروس بل استجابةً لدعوة المسيح للناس (كونوا كاملين)، وهم شهداء لأنهم اقتبلوا نعمة الاستشهاد بقناعة وشجاعة، وهم أخوة بالدم ما يعني الدعوة الى الأخوة العالمية الشاملة، لعلّ الله كما يقول المطران نجيم يمنّ علينا جميعاً بوحدة القلوب، فنكون يداً واحدة في تحقيق مشيئته، بشفاعة هؤلاء الشهداء من أبناء فرنسيس ومارون، كما على الأرض كذلك في السماء، وقد رُفعوا على مذابح الكنيسة الجامعة قدّيسين بين القدّيسين”.
اللوحة الرسمية
اللوحة الرسمية التي سترتفع في الفاتيكان اليوم لإعلان قداسة شهداء دمشق وهم الإخوة المسابكيين الموارنة، والرهبان الفرنسيسكان، تمثل الأب مانويل رويز ورفاقه الشهداء – المعروفين باسم “شهداء دمشق” . تم اختيار اللوحة من قبل القسم العام المسؤول عن تقديم طلبات قضايا القديسين في رهبنة الإخوة الأصاغر، وقد أنشأها الرسام أندريا بوتشي. رافقت نشر اللوحة ملاحظة حررها القسم العام، لوصف اللوحة وشرحها.
متحدون حول القربان الأقدس
يظهر شهداء دمشق القديسون – ثمانية رهبان فرنسيسكان من حراسة الأرض المقدسة وثلاثة علمانيين موارنة – كأخوية واحدة حول القربان الأقدس. كان للإخوة القديسين مسابكي علاقة ألفة وتعاون وثيق مع الرهبان. كان فرنسيس الممثل الرسمي المعتمد للدير، بينما كان عبد المعطي مربيًا في مدرسة الأطفال وكان رافائيل متاحًا دائمًا للقيام بأي عمل عند الضرورة. في اللوحة، نجد القديس مانويل رويز، رئيس الدير، في الوسط مرتديا وشاحا أحمر ويحمل حق القربان الأقدس. ومن أوراق الاستشهاد، نعلم أنه في مساء يوم 9 تموز 1869، عندما كانوا في حالة خطر شديد، اجتمعوا كلهم في الدير – الرهبان والعلمانيون – في الكنيسة بالذات، للصلاة والاعتراف وتناول القربان الأقدس، كي يجدوا فيه القوة لمواجهة المحنة المعروضة عليهم. عندما اقتحم القتلة الدير، ذهب القديس مانويل رويز على الفور إلى بيت القربان لاستهلاك القطع المتبقية، حتى لا يتم تدنيسها. وقد سقط عند أقدام المذبح نفسه، ضحية الكراهية للإيمان (odium fidei).
تكوين اللوحة
على اليمين، بجوار رويز، يظهر القديس كارميلو بولتا والقديس بيدرو سولير، راكعاً، وكان أحد أصغر أعضاء الجماعة الرهبانية في دمشق سنّاً. كان الأول نائبًا عن الجماعة، وهو يظهر حاملاً صليب القدس، رمز حراسة الأرض المقدسة. على يسار اللوحة، نرى الإخوة الثلاث القديسين مسابكي: القديس فرنسيس يحمل شعار البطريرك الماروني الكاثوليكي، والقديس عبد المعطي يحمل غصن النخيل، رمز الاستشهاد، والقديس رافائيل، أصغر الثلاثة، يضع يديه متشابكتين، في تذكير بحبه للصلاة. ومن حول هذه الشخصيات، نرى سائر القديسين الخمس الفرنسيسكان الشهداء. حاول الرسام جعل اللوحة أقرب ما يكون إلى ملامح القديسين الشهداء الحقيقية، بالمقارنة مع الصور الأصلية التي تلقاها القسم العام لدعاوى القديسين، أو صور التعبد التي تم إنشاؤها بعد تطويبهم وترسخت في المخيلة الشعبية.
وكإثراء زخرفي يشبه تسلسل طلبة القديسين، تظهر أسماء كل واحد منهم بالأحرف اللاتينية، بما يتوافق مع الشخصيات المعنية. وقد كانت هذه التفاصيل غير الضرورية مطلوبة لربط اللوحة الحالية باللوحة التي رسمتها الراهبات الفرنسيسكانيات مرسلات مريم، في عام 1926 (عام التطويب)، وكانت تظهر فيها بخط صغير أسماء القديسين على هالة القداسة المحيطة برأس كل منهم. بالنسبة للخلفية، تم اختيار لون السماء، بينما تم في الأسفل، نسخ صورة قديمة لمدينة دمشق، تعود إلى القرن التاسع عشر، يظهر فيها أيضاً مكان الاستشهاد والجماعة التي كان يسهر الشهداء القديسون على حمايتها بشكل خاص. (عن صفحة حراسة الأراضي المقدسة)
(اللوحة الرسمية)