توقّف “نداء الوطن” عن الصدور: الكلمة الأخيرة!
كتب رئيس تحرير ” نداء الوطن” بشارة شربل :
أَضاعُوني وَأَيَّ فَتىً أَضاعُوا لِيَومِ كَريهَةٍ وَسِدادِ ثَغرِ (شاعر أموي)…..
بأسف شديد، لكن بكبرياء واعتزاز، تسدل «نداء الوطن» اليوم الستارة على تجربة استثنائية دامت نحو خمس سنوات، ولسان حالها يردّد بيت الشعر المذكور أعلاه.
تُقفل الصحف عادة إما لتراجع عدد قرّائها، أو لضرر جسيم لَحِق بصدقيتها، أو لانتفاء الحاجة إليها بوجود ما يشبهها، أو لعجزها عن المنافسة وعدم تقديمها جديداً بالموقف والجودة والنوع والتنوّع. لكن نادراً ما تختفي جريدة في عزّ تألّقها بسبب تعثر مفاجئ أشبه بعملية اغتيال. ذلك أن هذه الجريدة بالذات كانت مثلما أعلنت يوم صدورها في 1 تموز 2019 «مش بس جريدة… قضية»، وبقيت حتى عددها الأخير وفيّة لرسالتها وعنواناً للدفاع عن السيادة والحرية ومشروع الدولة.
تترك «نداء الوطن» فراغاً كانت ملأته بخطاب علماني ليبرالي واضح وشجاع. ولا مبالغة في أنها شكّلت رأس حربة للفكرة السيادية الدستورية في مواجهة سرديات عصبية أخذت لبنان الى «المهوار» وتأخذ لبنانيين كثيرين الى خيارات قصوى كفراً بواقع الحال، وأنها كانت في صدارة المدافعين عن حقوق الناس وحرياتهم وعن دولة المؤسسات التي هي الهدف الأساس.
للتذكير فقط، فإن «نداء الوطن» بعد أسابيع قليلة على تأسيسها اجتازت «معمودية نار» وسجلت انتصاراً بالقضاء على محاولة إسكات صوتها. وهو حكمٌ نادرٌ ومشرّف أصدرته ثلاث سيدات قاضيات، ما رسّخ ايمان الصحيفة بأن الأمل لن يذوي، لا بمفاعيل تراكم نضالات اللبنانيين دفاعاً عن الحريات، ولا بكون دولة القانون وحدها ضمانة لقيامة لبنان.
لم تخطئ «نداء الوطن» لحظة في خياراتها الأساسية. انتصرت لثورة 17 تشرين الرائعة من يومها الأول، وأدّت واجبها مع ضحايا جريمة 4 آب ودفاعاً عن كل صاحب رأي جرى التحقيق معه لتطويعه. وكانت طليعية في تبني قضية الودائع المنهوبة داعية الى محاسبة كل المرتكبين من حاكم «المركزي» وأصحاب المصارف الى كل شريك في تلك الجريمة المتمادية حتى الآن.
لن أعدّد ما قامت به هذه الجريدة في عمرها القصير دفاعاً عن حق الاختلاف ورفضاً للتمييز على كل صعيد، وكأن السنين الخمس التي عاشتها أتت مضروبة بعشرة أضعاف من السنوات. وهي تفتخر بأنها فتحت صفحاتها للآراء المتنوعة والنقاش الراقي الحرّ، مثلما تفتخر بأنها الجريدة الوحيدة التي تصدّت بالموقف الأخلاقي والسياسي الحازم للمافيا والميليشيا سواء بسواء.
عمِلنا بوحي قناعاتنا الحرّة الديموقراطية. وما بنيناه كان جهد فريق متكامل ومتنوع يُشكر عليه كل زميلة وزميل. ولا يسعني في هذه العجالة المطوّلة إلّا أن أقدّم احترامي الكامل لكاتبات وكتّاب مميزين ساهموا بفكرهم وتجاربهم الغنية وسمعتهم العطرة في إنجاح الجريدة، ولهم فضل الالتزام والوفاء حتى آخر عدد بكِبَر وتضحية.
شكري الأخير للقرّاء الذين أحبّوا الجريدة أشخاصاً وأفكاراً ولغة ومقاربات، ولم يبخلوا بالتشجيع والتصويب والمساهمات.
لا نودّع «نداء الوطن» بحسرة ولا بدمعة، بل نزفّها على مذبح الكلمة اللبنانية الحرة، على أمل ان يحافظ أي مالك جديد لها على القيم نفسها التي جعلتنا نفتخر بها، أو أن نزهو بتلك القيم تحت اسم جديد… والعِلم عند الله.