في جونية… “ورشة” تُهدّد مبنى أثريّاً وناعورة
«إرث جونية التاريخي مهدَّد». صرخة أطلقها ناشطون على مواقع التواصل الإجتماعي الأسبوع الماضي. والخلفية تسبُّب ورشة بناء بتدمير ناعورة مياه أثرية وتهديد أساسات مبنى أثري يقع على مدخل الميناء – الشير الباطيّة – صربا، شُيّد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ثمة من يرى في ذلك المكان إحدى أقدم حارات جونية وأجملها لناحية هندستها المعمارية. فما القصّة؟
في آب الماضي، استفاق سكان المبنى الأثري – وهو عبارة عن محال تجارية وشقق سكنية – على أشغال تجرى في العقار رقم 826 من منطقة صربا العقارية، والمجاور لعقارهم. أعمال تهديم وتكسير ونزع أشجار ليمون كمرحلة تمهيدية لبدء عمليات الحفر، «جرفت» بطريقها ناعورة المياه الأثرية التي يشملها العقار رقم 825، حيث قضت الحفريات بشكل تامّ على حائطها الأثري الواقع في العقار 826. الهدف: تشييد مبنى تجاري في ظلّ تعتيم تام على تفاصيل الرخصة والملف الفنّي للمشروع، ما استدعى تحرّك مالكي المبنى الأثري ليتبيّن أن الورشة قائمة بلا رخصة مباشرة عمل من نقابة المهندسين.
أشهر ثلاثة مرّت ولم تنجح المفاوضات الحبّية في ردع أصحاب المشروع عن استخدام الآليات الثقيلة التي تتسبّب بارتجاجات قوية، بعد أن بدأت تظهر تشقّقات داخل المبنى. إشارة إلى أن المباني الأثرية لا أساسات لها وبالتالي هي تُصنّف بالـ»حسّاسة». «شاهدت بأمّ العين التشقّقات في الحجر القديم. الإحساس لا يوصف. اعتقدت لبرهة أن هناك زلزالاً بقوّة 7 درجات أو أكثر»، كما يخبرنا أحد الذين عاينوا الموقع. بناءً عليه، وبتاريخ 07/12/2023، تقدّم مالكو المبنى الأثري إلى قضاء العجلة بطلب أمر على عريضة راجين إصدار قرار بوقف أعمال البناء لخطرها على السلامة العامة. والحكاية مستمرّة.
تقرير الخبير: لا علاقة للأعمال بالتصدّعات
الشغل ماشي
محطتنا الأولى مع أحد مالكي المبنى، فيكتور عضيمي، الذي أشار في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن الخلاف بدأ حين رفض صاحب المشروع تسليم أي مستندات أو الإفصاح عن أي معلومات. «حاولنا مراراً التفاهم معه، وأبدينا استعداداً للاستثمار في مشروعه، لكن حين وجدنا الطريق مسدوداً، حيث يفعل ما بوسعه لعدم تبديل الآلات الثقيلة بأخرى أخفّ، لجأنا إلى القضاء. لكنّ تأخير صدور القرارات والبتّ بالأحكام جعله يفرض علينا أمراً واقعاً، وهو مستمرّ في عمليات الحفر ضارباً بعرض الحائط معايير السلامة العامة كافة».
في كانون الأول الماضي، قرّرت المحكمة تكليف الخبير المهندس جاك بارود لتوضيح ما إذا كانت الأعمال الجاري تنفيذها في العقار رقم 826 تشكّل خطراً على المبنى الأثري، بشكل خاص، وعلى السلامة العامة، بشكل عام. فما كانت نتيجة التقرير؟ «تبيّن أن أصحاب المشروع لم يحترموا الأصول الهندسية لجهة تعيين إستشاري جيو – تقني لمراقبة الدراسة والخرائط والإشراف على أعمال التنفيذ. كما أشار إلى أن الأعمال تشكّل، بحالتها الراهنة، خطراً قد يتحوّل دائماً على المبنى كما على السلامة العامة»، بحسب عضيمي.
الرجوع عن قرار وقف العمل بعد تطبيق التوصيات
تماشياً مع التقرير، صدر عن قاضي العجلة في كسروان، بتاريخ 15/12/2023، قرار يقضي بالوقف الفوري للأعمال الجارية إلى حين تطبيق التدابير التي أوصى بها الخبير، وأبرزها: تعيين إستشاري جيو – تقني؛ تدعيم كافة أقسام الحفرية؛ والتوقف الفوري عن استخدام أي آلة تحدث ارتجاجات. «مذّاك ونحن نخوض معركة كرّ وفرّ. حين يأتي الخبير يتوقفون عن العمل ليعاودوا نشاطهم بعدها. وهنا نتساءل عن أسباب تردُّد الخبير بارود في أن يكون قراره حازماً، وكأنه يريد إرضاء الطرفين على حساب السلامة العامة. الأعمال مستمرّة والتشقّقات تزداد يومياً. فمتى يتحرّك المسؤولون؟… حين ينهار المبنى فوق رؤوسنا؟»، يقول عضيمي.
بدورها، البلدية لم تتدخّل باعتبار أن صاحب المشروع حصل على رخصة تخوّله القيام بأعمال البناء. الحفريات تقترب أكثر فأكثر من المبنى الأثري. وتكاليف الشكاوى والتبليغات تزيد أعباءً على كاهل أصحاب المبنى، هم الذين يعانون أوضاعاً وصفوها بالـ»هستيرية» نتيجة الضجيج المتواصل الذي يستمرّ غالباً لساعات متأخرة من الليل. فهل تنتهي على خير؟
قرار وقف الأعمال الصادر عن قضاء العجل
«تضليل» وتحذير
الوكيل القانوني لأصحاب المبنى، المحامي جهاد بيروتي، أوضح في اتصال معه أن أحد أسباب الخلاف بين الطرفين هو محاولة أصحاب المشروع تحويل حقّ المرور من زراعي بحت إلى تجاري. لكن ما لبثت الأمور أن تفاقمت بعد فشل المفاوضات والإصرار على استخدام آلات أحدثت أضراراً خطيرة داخل المبنى. «رغم أن شركة التأمين تلزمهم القيام بدراسة لكشف الوضع الراهن للأبنية المجاورة (Etat des lieux)، إلّا أنهم لم يقوموا بها. ومع بدء عمليات الحفر راحت تظهر التشقّقات علماً بأن المبنى رُمّم بين العامين 2008 و2010 وهو من أفضل المباني الموجودة في جونية. كذلك طلب منّا الخبير جاك بارود وضع إشارات زجاجية (Verre – témoin) على التشقّقات فانكسرت بدورها، ما يعني أن الخطر يتفاقم باطّراد».
المشروع لم يزعزع المبنى الأثري فقط، إنما تسبّب بهدم ناعورة مياه أثرية ملاصقة لأعمال البناء وتشتّت حجارتها، ما يشكّل تهديداً للإرث الثقافي للمنطقة. «توجّهنا إلى وزارة الثقافة التي أرسلت خبيراً للكشف على المبنى والناعورة، لكن يبدو أن الأخير ضُلّل من قِبَل البلدية التي أكّدت أن لا صحة لما يُشاع عن هدم الناعورة. أما بالنسبة للمبنى، فما زلنا ننتظر القرار الذي سيصدر عن مديرية الآثار». المهندس جان ياسمين، خبير آخر كُلّف من قِبَل أصحاب المبنى للتحقّق من خطر التشقّقات ومصير الناعورة، فجاء تقريره في 17 شباط الماضي ليذكّر بضرورة وقف العمل بالآلات التي تحدث ارتجاجات نظراً لتزايد حجم التشقّقات مع استمرار الأعمال. كما جزم بأن الناعورة، التي هُدم جزء منها في أعمال سابقة، قد قُضي عليها بالكامل خلال عمليات الحفر الأخيرة. «يروّجون أن أصحاب المبنى يطمعون في الاستيلاء على الأراضي المجاورة ، لكن نيّتهم الوحيدة هي حماية أرواح السكان والحفاظ على ملكية تعني لهم الكثير معنوياً، ثقافياً وحتى معيشياً».
هدم الناعورة خلال عمليات الحفر
لست مسؤولاً
على المقلب الآخر، يخبرنا صاحب المشروع، سيزار اسكندر، أنه «بما يختص برخصة مباشرة العمل، لا حاجة لها خلال عمليات الحفر. لذا حصلنا عليها بتاريخ 13/11/2023، أي قبل البدء بأعمال الباطون. إضافة إلى استحواذنا على رخصة بناء من البلدية والتنظيم المدني كما من المجلس الأعلى للتنظيم المدني ووزارة الثقافة – مديرية الآثار، ذلك أن العقار الذي تجري فيه الأشغال أثري». نسأل عن سبب النزاع، فيجيب بأن أصحاب المبنى حاولوا ابتزازه من خلال عرض شراء محلّ من البناء قيد الإنشاء مقابل 350 ألف دولار، في حين يبلغ سعره 750 ألف دولار. «كانوا يريدون نقل مولّدات المبنى الخاص بهم إلى هذا المحلّ، كما أصرّوا على إعطائي حقّ مرور مقفل ما يعرقل عملية الفرز مستقبلاً، إضافة إلى لائحة شروط أرسلوها لي. وحين رفضت راحت الشكاوى تنهال عليّ. فلو كنت مخالفاً، لِمَ لم يتمكّن القضاء من إيقاف الأعمال حتى الساعة؟».
جيّد. ماذا عن الناعورة؟ يعتبر اسكندر أنها ليست أثرية، فهناك سند ملكية يثبت أنها ملك أشخاص وليست ملكاً للدولة، وأن كل ما قام به هو عمليات تنظيف بناء على طلب مالكيها. أما التشقّقات داخل المبنى، فنسبها إلى آثار الزلزال الذي طال لبنان السنة الماضية، كما إلى أعمال حفر وتكسير قام بها أصحابه سابقاً معرّضين المبنى للخطر. وبحسب اسكندر، لفت الخبير بارود في تقريره إلى أن التشقّقات قديمة ومحدودة ولا تشكّل خطراً على سلامة الأبنية، كما يوجد تصدّعات في الباطون بسبب اهتراء الحديد يجب معالجتها، في حين تحترم أعمال البناء قائمة شروط نقابة المهندسين كما الأصول الفنية والهندسية عبر تعيين مهندس جيو – تقني لدراسة التربة. نستفسر عن الأسباب التي تحول دون استبدال المعدّات الثقيلة بأخرى لا تحدث ارتجاجات، فيردّ اسكندر: «من يقرّر ذلك؟ تقاريرهم أم مهندس الورشة؟ المعدّات المستخدَمة لم تحدث أضراراً وأنا واثق من نفسي. لست مجبراً على تعريض حياة الآخرين للخطر، لكن، للأسف، الجشع والطمع يعميان قلوب البعض».
المبنى الأثري اليوم
علامات استفهام
وسط تقاذف التهم وتضارُب المعلومات، أشار مصدر متخصّص متابع للملف لـ»نداء الوطن» إلى أن الناعورة ذات أهمية أثرية كبيرة في جونية لوجود السبيل القديم في المنطقة نفسها، ما يؤكّد وجوب الحفاظ على منظومة المياه هناك. «للأسف، قام صاحب المشروع بهدم الناعورة دون الرجوع إلى مديرية الآثار. وحتى لو هي تقع في عقار خاص، يجب على أي عمل أن يحظى بموافقة المديرية حفاظاً على النسيج التراثي لجونية». المصدر نفسه حذّر من أن الحفريات الجارية في ظلّ وجود مياه جوفية غير منخفضة نسبياً، تُضاعف من خطر تعرّض المبنى الأثري للمياه وانزلاق التربة من تحته. وهذا يطرح علامات استفهام حول صمت البلدية ومحاولة التعتيم على هدم الناعورة وغياب التنسيق بينها وبين وزارة الثقافة.
ثمة من يتحدّث عن رشاوى دخلت على الخط. لكن بجميع الأحوال، نتابع مع المصدر لنطمئن الى سلامة سكان المبنى. «هذه الأعمال، بنمطها الحالي، تسبّب خطراً على أساسات المبنى حيث بدأت تظهر التفسّخات. فالآلات الثقيلة ليست صالحة للاستخدام في المناطق الأثرية، لكن صاحب الورشة «ما عم يردّ عَ حدا». يجب إيقاف عمليات الحفر العشوائية فوراً، حيث بات الخوف جدّياً على سكان المبنى، وهذا ما أكّده خبير المجلس الدولي للمعالم والمواقع (ICOMOS)، المهندس جان ياسمين، حيث لا مجال للتشكيك في تقريره».
كم سيبلغ ارتفاع المبنى المنوي تشييده؟ هل سيراعي طابع المدينة الأثري؟ من يحمي داخون كرخانة الحرير وبقايا العقار الأثرية، ومن يضمن ألّا يكون مصيرها كمصير الناعورة؟ يسأل السائلون وعينهم على احتمالين: انسحاب غضّ النظر على مشاريع مستقبلية مرتقبة في المنطقة؛ أو تدارُك خطورة ما يحصل قبل أن «تكرّ السبحة». ولسان حالهم: أسوأ ما في السوء، إن حدث، أن يمرّ… فيُعتمَد.