عاصمة الكرمة تتألّق عالميًا وتُكرَّم بلقبٍ يليق بها

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
“زحلة مدينة عالمية للكرمة والنبيذ” ليس شعارًا آخر تضيفه عاصمة الشعر والخمر إلى رصيد سمعتها الذي كونته عبر زراعة الكرمة وصناعة مشتقاتها، إنما هو لقب عالمي منحته للمدينة “المنظمة الدولية للكرمة والنبيذ”، وفقًا لتأكيدات نقلت عن ممثل لبنان في المنظمة المدير العام لوزارة الزراعة لويس لحود. وفي اللقب ما يضيء على الواقع الاقتصادي لمدينة وقضائها قدّما أجود أنواع العنب المزروع لأغراض صناعية، ويثني على جهود صانعي النبيذ الذين لم تحبطهم ظروف أمنية ولا سياسية وصحية، وبالتالي يكرّم تراث مدينة اقترنت هويتها بالكرمة منذ نشأتها الأولى.
وهكذا إذًا سترفع زحلة كأسها باعتزاز، بصفتها أول مدينة في الشرق الأوسط تصنّف مدينة عالمية للنبيذ. هذه المبادرة عكست التكامل بين بلديتها السابقة برئاسة أسعد زغيب وبلديتها الحالية برئاسة سليم غزالي، إل جانب تضافر الجهود بين البلدية ووزارة الزراعة وغرفة التجارة والصناعة والزراعة في البقاع. فأكدت التقارير التي رفعها هؤلاء بالأرقام أن زحلة وقضاءها يتربعان على عرش الكرمة، زراعة وصناعة. فماذا في هذه الأرقام؟
عاصمة الكرمة والنبيذ بالأرقام
تمّ تسجيل 63 معملًا لإنتاج النبيذ في لبنان لدى وزارة الزراعة. ووفقًا لتأكيدات المدير العام للزراعة فإن نصف هذه المعامل يتركز في مدينة زحلة، إضافة إلى احتلال الكرمة مساحات واسعة من أراضي قضائها الزراعية. وهذا ما يجعل زحلة تحتضن كروم صناعة النبيذ المحلية، كما تحتضن كروم المنتجين من مختلف الأراضي اللبنانية.
وفي هذا السياق، كان المدير العام لمعهد الكرمة، ظافر الشاوي، قد أكد، بمناسبة إحياء يوم النبيذ اللبناني في زحلة منذ العام 2022، أن “زحلة هي عاصمة الكرمة في سهل البقاع، وهي أقدم وأكبر منطقة لصناعات مشتقات الكرمة في لبنان”.
بحسب الأرقام التي توصّلت إليها وزارة الزراعة، نتيجةً لزيارات ميدانية وسلسلة من الأنشطة والدراسات التي أجرتها، تشكّل المساحة المزروعة بالكروم في لبنان 8 % من إجمالي مساحة الزراعات الدائمة، فيما يحتل عنب التصنيع 30 % فقط من هذه المساحة.
وتتركز 46 % من هذه الزراعات في محافظة البقاع التي تضم قضاءي زحلة والبقاع الغربي، تليها محافظة بعلبك-الهرمل بنسبة 23 %، ثم عكار ولبنان الشمالي.
أما محافظتا الجنوب والنبطية فقد سجّلتا أدنى نسبة لانتشار هذه الزراعة فيها.
من قلب التقاليد إلى رحاب الابتكار
في كتابيّ الدعم الموجهّين من بلدية زحلة وغرفة التجارة والصناعة والزراعة، تأكيد على المسار التاريخي الطويل الذي يربط مدينة زحلة وقضائها مع صناعة النبيذ، والذي بدأ مع بعثة الآباء اليسوعيين في القرن التاسع عشر، حيث نشأت أولى خمارات لبنان، فشكّلت نواة لصناعة نمت وتطوّرت، وأصبحت اليوم رافعة اقتصادية وسياحية وتراثية في آنٍ معًا.
وهذا ما جعل بلدية زحلة تعتبر في كتابها، أن القيم الأساسية لهذه الصناعة في زحلة، بما تختزنه من تقاليد، وجودة، وتنوّع، واستدامة، تنسجم تمامًا مع مهمة المنظمة الدولية للكرمة والنبيذ (OIV) في تعزيز وحماية التراث البصري العالمي. وبالتالي، رأت أن الاعتراف بزحلة كمدينة عالمية للنبيذ “لا يكرّم ماضينا فحسب، بل يلهم أيضًا استمرار الحفاظ على تقاليد صناعة النبيذ القديمة وتطويرها”.
كما لفتت غرفة التجارة في زحلة والبقاع في كتابها المؤيد أيضًا إلى “أن منتجي النبيذ في زحلة يواصلون إظهار قدرة لافتة على الصمود والتكيّف، من خلال الدمج المتناغم بين الخبرة التقليدية والابتكار الحديث في علم الكرمة. وعلى رغم التحديات التاريخية والمعاصرة، تحرص مصانع النبيذ في زحلة على ضمان جودة مستدامة وإبداع مستمر في عملية الإنتاج”.
منتج بمواصفات استثنائية
لا شك أن زحلة بتحقيقها لقب مدينة عالمية لصناعة النبيذ، ترفع معها اسم النبيذ اللبناني عمومًا، والذي واجه في السنوات الماضية صعوبات جمة، نجح في تخطيها، على رغم كل التحديات المحلية والعالمية. إلا أن ما يميز “نبيذ زحلة” تحديدًا، أن المنتج هنا مطعّم بمواصفات مثالية تؤمنها طبيعة الأرض والمناخ الذي ينمو فيه العنب، إضافة إلى كونه مجبولًا بشغف مصنعيه وكفاح عائلات توارثت أسرار طبخة النبيذ من جيل إلى جيل، وهذا ما عزز من قدرة النبيذ الزحلي واللبناني تحديدًا على التنافس في أسواق يتغلب فيها المنتج العالمي بكلفة إنتاجه الأقل كلفة، فشكل ذلك حافزًا أساسيًا للتنافس على تطوير الإنتاج والتميّز بأصنافه.
ماذا بعد هذا اللقب العالمي؟
وكانت المنظمة الدولية للكرمة قد وافقت على مضمون الملف الذي قدمه لبنان على مستوى بلديتها وغرفة التجارة ووزارة الزراعة، بتاريخ 16 نيسان 2025. وبناء عليه كلف لحود، بصفته مندوب لبنان الدائم لدى المنظمة الدولية للكرمة والنبيذ، بمتابعة الأمر وبذل الجهود الدبلوماسية والفنية اللازمة لتحقيق الهدف المرجو. فأجرى فريق عمل الوزارة سلسلة أنشطة ودراسات وزيارات ميدانية، أضيفت نتائجها إلى الملف، لتتوَج الجهود بتبلغ لحود قرار المنظمة الدولية رسمياً قبول الطلب، وبالتالي إدراج زحلة على لائحة مدن عالمية تميزت بتقديم هذا المنتج.
يعتبر لحود في حديث لـ “نداء الوطن” أن إعلان زحلة مدينة عالمية للنبيذ يشكل تقديرًا لصناعتها اللبنانية عمومًا، ولاحترامها النوعية والمواصفات، ولاستثمار مصنعيها الجيد بهذا القطاع. لافتًا إلى أن صناعة النبيذ استمرت بتحقيق النجاحات العالمية، على رغم كل الصعوبات التي مر بها المصنعون في السنوات الماضية، فهم لم يتوقفوا عن الإنتاج والتصدير.
ويلفت لحود في المقابل إلى أربع فوائد رئيسية ستجنيها المدينة من خلال هذا التصنيف:
أولًا: تنشيط السياحة الزراعية عبر دمج زحلة في المسارات العالمية لعشّاق النبيذ. متحدثًا عن إدراج زحلة من ضمن مسارات زراعية سياحية باشرت وزارة الزراعة بالتخطيط لها.
ثانيًا: تحفيز توسّع زراعة العنب الصناعي وزيادة المساحات المزروعة.
ثالثًا: جذب الاستثمارات الصناعية وبالتالي خلق فرص عمل محلية مستدامة.
رابعًا: تعزيز المكانة التراثية والسياحية للمدينة.
ويلفت لحود إلى أن منظمة الـ OIV ستعقد مؤتمرها العالمي حول النبيذ في مدينة زحلة خلال فصل الخريف المقبل، وهي ستكون حاضنة للمدينة. وكما ساندت لبنان بتسويق نبيذه في دول العالم ستساعده أيضًا على تسويق زحلة كعاصمة لصناعة النبيذ.
المهم أن النبيذ وصناعته المتجذرة بتاريخ زحلة انتزع لها اعترافًا دوليًا آخر يضاف إلى الاعتراف بها كمدينة عالمية للتذوق من ضمن شبكة الأونيسكو للمدن المتميزة. وبذلك ترسّخ المدينة موقعها كمحور اقتصادي وثقافي وسياحي في عالم النبيذ والمطبخ. لتثبت زحلة في زمن تتعثر فيه القطاعات، أن الاستثمار في الأصالة، حين يُقرن بالتنظيم والشغف، يمكن أن يصنع تميّزًا عابرًا للحدود.