وساطة انتهت قبل أن تبدأ… برّاك: دبّروا راسكم

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
انتهت مهمّة السفير توم برّاك، موفد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى لبنان، قبل أن تبدأ فعليًّا. تحوّلت في الظاهر إلى مجرّد سياحة سياسية من تركيا إلى سوريا ولبنان، وامتدت إلى زيارات مجاملة في قصر بعبدا وعين التينة والسراي الحكومي، وهي محطات ينبغي عليها أن تكون على دراية بما يجب فعله بعيدًا عن مهمة برّاك.
أمّا محطات معراب وكليمنصو وبكركي ومطرانية بيروت للروم الأرثوذكس مرورًا بعشاوات السفارة والنائب فؤاد مخزومي، فتحوّلت إلى مجاملات لتقطيع الوقت قبل حلول الوقت القاطع لهذا الهدوء الهشّ على وقع التحوّلات الكبيرة الحاصلة في سوريا.
عندما وصل برّاك إلى لبنان في 19 حزيران الماضي، في زيارته الأولى، لم تكن قد بدأت أحداث السويداء في سوريا، ولم يكن عدد من الدروز في لبنان يتوجّهون لقطع طريق بيروت – دمشق في منطقة صوفر. ولا كانت سارت تظاهرات مؤيدة للرئيس السوري أحمد الشرع في طرابلس، ولا كان هناك خوف من أن تحصل إشكالات بين مؤيدي الحزب “التقدمي الإشتراكي”، وبين عرب خلده مثلًا بعدما كانوا صفًّا واحدًا ضدّ “حزب الله”.
ولا كان شيخ عقل الطائفة الدرزية سامي أبي المنى اشتكى من أنّ أي مرجعية سنية لم تتصل به لاستنكار ما حصل من اعتداءات على الدروز في السويداء. وأكثر من ذلك ما كانت بدأت عملية إخراج مئات العائلات من البدو والعشائر العربية من السويداء في عملية فرز سكاني، ولا وقفت قوى السلطة السورية عند حدود المحافظة ومنعت من دخولها.
ولا كانت الهواجس التقسيمية برزت بهذا الشكل الواضح. وما كانت إسرائيل تدخّلت لرسم خريطة النفوذ في قلب دمشق، وأجبرت الرئيس الشرع على مراجعة حساباته والتراجع إلى حدود سلطاته الضيقة جدًا داخل قصره المهدّد بالقصف.
تسليم السلاح يكون علنيًا
الثابت الوحيد، ربّما قبل بدء جولات برّاك وخلالها وبعدها، سيبقى تمسّك “حزب الله” بسلاحه، وهي المهمة الرئيسية التي جاء برّاك من أجلها ووقف تجاهها مستسلمًا ملقيًا المسؤولية في التنفيذ على الحكم اللبناني مجتمعًا بين رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام، وعلى “حزب الله” نفسه المطلوب منه أميركيًا وإسرائيليًا أن يعلن جهارًا أنّه يتخلّى عن سلاحه وينضوي تحت سقف السلطة.
وكان المطلوب أكثر من كل ذلك أن تتمّ عملية تسليم السلاح تحت الأضواء بحيث تكون علنية ومصوّرة لا تكتفي بالبيانات عن مصادرة أسلحة ومخازن، بينما تستمرّ إسرائيل في استهداف عناصر “الحزب” ومقرّاته ومخازنه في مناطق تذكر البيانات أنها باتت خالية من أي نشاط مسلّح لـ”الحزب”.
عندما تم الإعلان عن أن توم برّاك سيحلّ محلّ مورغان أورتاغوس، مساعدة موفد الرئيس ترامب ستيف ويتكوف، استبشر اللبنانيون خيرًا على أساس أنّه من أصل لبناني ويفهم الوضع أكثر منها ويتفهّم هواجسهم، بينما هي كانت فجّة ومباشرة وتحدّثت عن قرار لا رجوع عنه بأن يُنزع سلاح “حزب الله” من دون أي تعهدات بالمقابل للسطة اللبنانية. أتت أورتاغوس من عالم الجمال إلى السياسة وجمعت الهوايتين.
بينما أتى ويتكوف من عالم المال والمليارات والأعمال والاستثمارات العقارية. من هذا العالم المشابه أتى أيضًا توم برّاك إلى تركيا وسوريا ولبنان. وسريعاً ظهر أنّه يحمل العصا التي كانت تحملها أورتاغوس من دون أي جزرة.
انهيار الأحلام الوردية
الأحلام الوردية التي بُنيت على مهمة برّاك لم تعمّر طويلًا. تهاوت كما تتهاوى فرص السلام وإعادة بناء الدولة في سوريا. كأنّها صورة موازية لفشل محاولة إعادة بناء الدولة في لبنان. هذا ما أتى من أجله برّاك وهذا ما لم يحصل.
عندما حطّ في بيروت في 19 حزيران الماضي لتسليم الحكم اللبناني ورقة المطالب الأميركية، كان من اللافت أن برّاك التقى الرؤساء عون وبري وسلام، وتغدّى عند وليد جنبلاط في كليمنصو. كان جنبلاط قد قام بمهمة صعبة في سوريا من أجل تجنّب تجرّع الكأس المرّ في السويداء في مهمة يبدو اليوم أنّها غير منفصلة عن مهمة برّاك نفسه في سوريا.
اللافت أيضًا أنّ جنبلاط أعلن في مؤتمر صحافي في 25 حزيران، أي بعد خمسة أيام على لقائه برّاك، تجميع سلاح “الحزب التقدمي الإشتراكي” وتسليمه إلى الجيش. وهو الأمر الذي لم يؤكده الجيش ولم يصدر أي بيان بشأنه عن مديرية التوجيه أو عن رئاسة الجمهورية، التي وضع جنبلاط المسألة بين يديها قائلًا إنّه أبلغ الرئيس عون بهذا الأمر.
تسليم دون قيد أو شرط
تعاطى الحكم في لبنان مع ورقة برّاك وكأنّها سرّ من أسرار الدولة التي لا يجب أن تتسرّب أو تكشف لأن المسؤولية كبيرة، والهدف تلبية المطالب الأميركية الإسرائيلية من دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار السلم الداخلي والاصطدام بـ “حزب الله”.
من الواضح كما ظهر لاحقًا أنّ هذه المطالب كانت تتحدّث عن أمور كثيرة ولكنها كانت تصبّ في هدف واحد، أن يسلّم “حزب الله” سلاحه دون قيد أو شرط، وحتى دون أي ضمانات. هذا الأمر تعرف واشنطن، كما تعرف إسرائيل، أنّ السلطة في لبنان عاجزة عن تنفيذه أو لا ترغب بالتورط فيه حتى لو كانت قادرة.
والسلطة الحالية غير قادرة وغير راغبة معًا. ولكن في واشنطن وإسرائيل يعرفون أيضًا أنّ مسار هذه السلطة الجديدة في لبنان يمرّ عبر هذه الخطوة.
كما المسار المرسوم للحكم السوري الجديد، هناك مسار مرسوم للحكم في لبنان، من انتخاب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية، إلى تسمية الرئيس نواف سلام لتأليف الحكومة، إلى تشكيل هذه الحكومة وصولًا إلى تنفيذ متوجّبات قرار وقف النار الذي وافق عليه “حزب الله” وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي والرئيس نبيه بري في 27 تشرين الثاني الماضي.
هذا الاتفاق ينصّ على نزع سلاح “حزب الله” من دون قيد أو شرط، ومن دون أي ربط مع الانسحاب الإسرائيلي. كان واضحًا أنّ هذا الانسحاب يكون بعد التزام لبنان بتنفيذ الشقّ المتعلّق بنزع سلاح “الحزب”.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ في ورقة برّاك، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: أن يعلن “الحزب” قبوله راضيًا نزع سلاحه، والانخراط في العمل السياسي تحت سقف الدولة، وأن يكون تنفيذ هذا الشق علنيًا ومصوّرًا وأن يتولّى الجيش هذا الأمر. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ واشنطن وإسرائيل غير مقتنعتين بما يرد في البيانات الإعلامة التي تتحدّث عن نزع سلاح “الحزب” جنوب الليطاني على رغم الصورة الشهيرة التي التُقِطت لمورغن أورتاغوس في أحد مركز الجيش في الجنوب وهي تحمل صاروخًا صادره الجيش، وإلى جانبها ضابط تسبّبت بتعريضه لحملة تخوين.
واشنطن لا تستطيع ولا ترغب ولا تريد
برّاك بدوره قام بجولة ميدانية في الجنوب خلال زيارته الثانية في 7 تموز. في تصريحاته في زياراته الثلاث كان يحاول أن يرسم تفاؤلًا وإيجابية وتمنيات بالخير للبنان ولكنّه في الواقع كان يخفي تشاؤمًا وتهديدًا، وهو يدرك أنّ الحكم في لبنان عاجز عن تلبية المطالب التي حملها.
في زيارته الأخيرة أعلن أن واشنطن لا تستطيع ولا ترغب ولا تريد أن تفرض على إسرائيل أي التزام، لا بالنسبة إلى تعهّدها بالانسحاب من المواقع التي لا تزال تحتلّها في لبنان، ولا بالنسبة إلى وقف عملياتها ضدّ أهداف تابعة لـ “حزب الله”، ولا بالنسبة إلى ضمان عدم قيامها بعملية اجتياح جديدة وشاملة لتصفية وجوده في حال فشل السلطة اللبنانية في تلبية مطلب نزع سلاحه. قرأ سريعًا الرد اللبناني الرسمي، وهو يعرف مسبقًا ما هو مكتوب، أيقن أنّ السلطة اللبنانية عاجزة وغير قادرة. حصيلة جولاته ومقابلات وتصريحاته تعني أنه يقول: “أشهد أني بلّغت. لا أستطيع أن أفعل لكم شيئًا وليس عندنا حلّ سحري. ودبّروا راسكم”.
قبل زيارته الثانية في 7 تموز وقبل أن يتسلّم الردّ اللبناني على ورقته، جاءه الردّ من “حزب الله” بالتظاهرة العاشورائية المسلحة في الخندق الغميق. وقبل أن يتسلّم الردّ الثاني على ردّه على الردّ، جاءه الردّ من الأمين العام لـ “حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، بأن حزبه لن يتخلّى عن سلاحه. وهو إعلان ليس جديدًا.
قبل هذا التاريخ كان “الحزب” يتحجّج بالخطر الوجودي الذي يأتيه من إسرائيل وأميركا. اليوم صارت لديه حجّة ثانية بعد أحداث السويداء والساحل السوري. ثمّة خطر وجودي يتوقّعه من الشرق أيضًا. اللافت أنّه بينما يطلب برّاك من السلطة نزع سلاح “الحزب” أوقفت السلطة عددًا من الذين ظهروا بالسلاح، ثم أطلقت بعد أيام سراحهم من دون محاكمة. مثل هذا الأمر لا يقدّم إلّا إجابات سلبية على ما تريده واشنطن وتل أبيب.