الرياض تُراكم النفوذ السياسي وتضبط الإيقاع الإقليمي

لم يكن لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان حدثاً معزولاً عن السياق الإقليمي القائم. فزيارة الأمير إلى واشنطن جاءت بعد سلسلة اتصالات أجراها مع قيادات إيرانية، سياسية وعسكرية، ما يُشير إلى أن التحرّك السعودي لم يكن وليد اللحظة، بل جزء من مسار متواصل يستهدف خفض التوتر وإعادة ترتيب خطوط الاتصال في المنطقة.
هذا الحراك، وإن لم يُعلَن عنه رسمياً كوساطة، إلا أنه أعاد تثبيت موقع الرياض كلاعب لا يكتفي بالمراقبة، بل يتحرك بهدوء، عبر قنوات متشعّبة، في توقيت بالغ الحساسية. وقد أتى الاجتماع في البيت الأبيض ليضيف بُعداً سياسياً إلى التحرّك، خصوصاً أنه تزامن مع مؤشرات متزايدة على رغبة أميركية في استثمار اللحظة.
لم يتأخر الرئيس ترامب في توظيف اللقاء، إذ ألمّح إلى نقاش دار مع الأمير السعودي حول مسار الاتفاقيات الابراهيمية، مشيراً إلى إمكانية انضمام دول جديدة إليها. غير أن هذا الطرح، على الرغم من ظهوره في العلن، لم يلقَ تجاوباً سعودياً مباشراً، إذ لا يزال الموقف في الرياض قائماً على معادلة واضحة: لا خطوات تطبيعية خارج إطار تسوية عادلة تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
في هذا السياق، يعود إلى التداول مشروع كانت تعمل عليه السعودية بالتنسيق مع فرنسا، ويهدف إلى إعادة تثبيت حلّ الدولتين وتوسيع الاعتراف الدولي بفلسطين. ورغم أن هذه المبادرة توقّفت مع تصاعد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، إلا أنها لم تُسحب من التداول، بل بقيت حاضرة ضمن التقديرات السياسية السعودية على أنها أحد المسارات الممكنة لإعادة التوازن إلى الملف الفلسطيني.
ويكتسب اللقاء بين ترامب والأمير بن سلمان أهمية إضافية، نظراً لتزامنه مع الاستعدادات الجارية لاستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، في ظل ترقّب لاحتمال التوصّل إلى تسوية تفضي الى وقف إطلاق النار في غزة. وما بين اللقائين، تبدو الرياض حاضرة في النقاش السياسي، حتى وإن لم تظهر في المشهد الإعلامي، ما يعكس رغبة في التأثير بصمت، من دون الدخول في لعبة العناوين المباشرة.
بالتوازي، لا تغيب المملكة عن ملفات أخرى تزداد تعقيداً، وفي مقدّمها لبنان وسوريا. ورغم أنّ المتابعة السعودية لهذين الملفين لا تأخذ شكل الانخراط العلني، إلا أنها قائمة ضمن سياسة مضبوطة لا تغيب عنها التفاصيل، ولا تنخرط في السجالات، بل تراقب وتنتظر اللحظة المناسبة للتدخّل أو الدفع نحو استقرار نسبي يمنع الانهيار الكامل.
دولياً، تتقاطع هذه التحركات مع استعادة تدريجية للتنسيق مع واشنطن، وذلك بعد فترة من التباعد خلال ولاية إدارة بايدن. إلا أن ذلك لا يعني انكفاءً عن الشرق، حيث حافظت الرياض على علاقتها المتينة مع بكين، التي باتت تشكل شريكاً اقتصادياً رئيسياً. ولعلّ هذا التوازن يعكس رؤية استراتيجية ترى في التنويع قوة، وفي الانفتاح أداة لحماية القرار المستقل.
وبذلك، لا يبدو أن التحرك السعودي الأخير وليد ظرف سياسي عابر، بل هو امتداد لنهج يتبلور تدريجياً، ويعيد موقع المملكة إلى الواجهة، لا عبر التصعيد، بل من خلال حضور موزون، يبني التأثير على الدبلوماسية الصامتة، لا على الصدام.