المسألة الدرزية بين إسرائيل ولبنان وسوريا

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
عندما فكّر رئيس النظام السوري حافظ الأسد في اغتيال زعيم الدروز في لبنان كمال جنبلاط عام 1977، لم يأخذ في الاعتبار ردّ فعل الدروز في سوريا. كان واثقاً من أنّ الاغتيال يمكن أن يمرّ من دون أي ردّ فعل، ذلك أنّ دروز سوريا كانوا تحت السيطرة نتيجة تجارب سابقة مريرة مع كل العهود التي حكمت دمشق، وكان المطلوب إخضاع دروز لبنان كي يتعلّموا الدرس من دروز سوريا.

صحيح أنّ التاريخ يحكي عن ثورة سلطان باشا الأطرش في سوريا في عشرينيات القرن الماضي، وقد انطلقت من جبل الدروز في السويداء. والصحيح أيضاً أنّ هذه الرواية لا تلغي الروايات اللاحقة لها وفيها أن “أمير الجبل” و”رمز الثورة” اضطرّ إلى الفرار من سوريا واللجوء إلى الأردن على عهد الرئيس أديب الشيشكلي عام 1954، وعارض بقوة حكم حزب البعث بعد انقلاب 8 آذار 1963، وأنه لم يشارك في أي موقع رسمي في أي سلطة حتى وفاته عام 1982.

إخضاع بالقوة

وخارج سياق هذه الثورة التي قادها وبعيداً عن اسم قائدها “الباشا”، لم يكن للدروز أي حضور وازن داخل السلطة في سوريا. آخر موقع قيادي ربما تولاه اللبناني شوكت شقير عندما صار رئيساً لأركان الجيش السوري من عام 1953 حتى عام 1956. كل حكّام سوريا ظلوا يتعاملون معهم وكأنّهم ملحقون بالدولة، وبأنهم لا حقوق لهم، وبأنّ المطلوب منهم أن يؤكّدوا ولاءهم للحاكم حتى لا يُتَّهموا بالخيانة. وتعرضوا نتيجة ذلك لغارات عسكرية ولقصف بالطيران في عهود الشيشكلي والبعث من أجل إخضاعهم. كل ذلك لم يؤدِّ إلى اندماج الدروز في النسيج الداخلي للدولة السورية. وهذا الواقع الأمني والسياسي والمذهبي هو الذي ينفجر اليوم ليمتدّ من دروز جبل حوران والسويداء إلى دروز جبل لبنان ودروز فلسطين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويقاتلون في الجيش الإسرائيلي.

بدل أن يكون انهيار النظام السوري السابق وفرار رئيسه بشار الأسد إلى موسكو كمقدمة لإعادة توحيد سوريا وإقامة نظام جديد يعترف بمكونات الشعب السوري الطائفية والقومية، اتجهت التطورات نحو مزيد من الانقسامات وتصعيد الصراعات. ما حصل في بعض مناطق الساحل، حيث يتركز وجود العلويين، يتكرّر في نسخة مشابهة مع الدروز في مناطق السويداء وجرنايا وأشرفية صحنايا في ريف دمشق. فجأة وجد الدروز، كما العلويين، أنفسهم يبحثون عن أمان وعن هوية في دولة جديدة تبحث عن إخضاع الجميع تحت سقف سلطة مركزية تفجّر التناقضات بدل أن تستوعبها.

أوهام دولة لا يمكن أن تتشكّل

يشبه ما يحصل في سوريا بين السلطة الحاكمة الجديدة والدروز ما كان يحصل في لبنان في بعض محطات الحرب، من خلال التسويات الغامضة التي كانت تشكّل تخطّياً للأزمة والانهيارات الأمنية من دون أن تقدّم أي حلّ. بين السويداء وجرمانا وأشرفية صحنايا قلق ومصير مجهول واتهامات وتصفيات واستغاثات لا تجد صداها إلا في إسرائيل. يريد الدروز أن يؤكدوا انتماءهم السوري ويناشدون العهد الجديد أن يستوعبهم ويحميهم، في المقابل هناك من يتّهمهم بأنّهم يريدون أن يلتحقوا بإسرائيل وأن ينفصلوا عن سوريا. بين الولاء والخيانة يواجه دروز سوريا مصيراً مجهولاً. المشاهد المسرّبة حول التعرّض لهم وإذلالهم والتنكيل بقتلاهم، وانتهاك كراماتهم، مشايخ وغير مشايخ، لا تبشّر بالخير. وكل ذلك يفتح المجال أمام التوغل الإسرائيلي في التفاصيل السورية. بعد التوغل العسكري في القنيطرة والجولان وجبل الشيخ بدأ الانخراط في تشكيل الواقع السياسي الجديد من خلال الإعلان عن أن دروز سوريا في حمايتنا”. ولكن كيف يمكن أن تؤمّن إسرائيل هذه الحماية؟ وهل تفرض التطورات الداخلية على الدروز قبول هذه الحماية؟ وهل هم في وارد الانفصال عن الدولة السورية وتشكيل دولتهم الخاصة التي يمكن أن تتوسع لاحقاً لتشمل دروز لبنان وفلسطين؟ وهل هذا الأمر ممكن أم أنّه مجرد أوهام حول دولة لا يمكن أن تتشكّل وتتوحّد على أنقاض إعادة تشكيل دول المنطقة كلها؟

بصعوبة يحاول قادة الدروز الدينيون والسياسيون في لبنان منع انعكاس ما يتعرّض له دروز سوريا على مناطقهم. دائماً كان هناك تفاعل وتأثير متبادل بين قادة الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين، وغالباً ما كان قادة الدروز في لبنان يوجّهون بوصلة إخوانهم في الدين هناك، إذ إنّهم كانوا وما زالوا يتمتّعون بحرية أكبر في العمل السياسي والمشاركة في السلطة.

الانفصال المستحيل والوحدة القاتلة

ولكن بين ما أعلنته قياداتهم في السويداء حول تثبيت انتمائهم السوري ورفضهم أي انفصال، في محاولة لاحتواء التوتر ووقف هشيم النار، وبين تعهّد إسرائيل حمايتهم يستمرّ التناقض وتستمرّ الأزمة.

صباح الجمعة 2 أيار الحالي، وفي رسالة واضحة إلى رئيس الجمهورية الانتقالي أحمد الشرع، هاجم الجيش الإسرائيلي هدفاً قرب القصر الرئاسي في العاصمة السورية، مجدداً تعهّده بحماية أبناء الأقلية الدرزية. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بيان مشترك مع وزير دفاعه يسرائيل كاتس: “هذه رسالة واضحة للنظام السوري: لن نسمح للقوات السورية بالانتشار جنوب دمشق أو بتشكيل أي تهديد للدروز”. وأتت هذه الضربة من ضمن ضربات أخرى مماثلة، وفي ظل التوترات الأخيرة في جرمانا بريف دمشق التي انتهت باتفاق غامض بين الحكومة ومشيخة العقل في المدينة يقضي بدخول جهاز الأمن العام إليها وتسليم الأسلحة الثقيلة، وبعدما كان مشايخ عقل الطائفة في السويداء أكّدوا التزامهم بالمواقف الوطنية الثابتة باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من الوطن السوري الموحّد، ورفضوا التقسيم أو الانسلاخ أو الانفصال، وطالبوا بتفعيل دور وزارة الداخلية والضابطة العدلية بمحافظة السويداء وتأمين طريق السويداء دمشق، وبسط الأمن والأمان على الأراضي السورية بعيداً عن الفتن والنعرات الطائفية.

الدور الإسرائيلي

الجديد في بيان نتنياهو ووزير دفاعه هو التأكيد على منع انتشار القوات السورية جنوب دمشق. فهل يعني ذلك أن الشريط الأمني الذي تريد إسرائيل إقامته في سوريا يمتد حتى دمشق؟ وهل يعني ذلك أنه يشمل كل المناطق الدرزية؟ وهل تنفع الغارات الجوية وحدها في فرض الحماية على المناطق الدرزية خارج السويداء؟ أم أن الهدف من هذا التصعيد الإسرائيلي تعريض الدروز في محيط دمشق للعنف والتهجير لجمعهم في منطقة واحدة ولإيقاع القطيعة النهائية بينهم وبين أي نظام جديد في سوريا؟ وهل ستؤدي هذه الأحداث إلى ضياع آخر فرصة للوحدة السورية؟

بغض النظر عن موقف الدروز من إسرائيل أو من سوريا فمشكلتهم مع كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم دمشق كانت في تثبيت هويتهم الوطنية والحفاظ على أمنهم وهويتهم الدينية. وهذا ما يواجهون خطره اليوم بعد التعرض لهم ولمعتقداتهم في مناطق إدلب تحت حكم هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع. لقد استشعر وليد جنبلاط خطر التحولات في سوريا وانعكاسها على الدروز هناك، واستشعر خطر امتدادها إلى لبنان. فدروز سوريا لم يكونوا من أدوات النظام السابق حتى يتم تحميلهم أوزار ما ارتكبه قبل سقوطه، بل كانوا من معارضيه. ولذلك لا يمكن مقارنتهم مع العلويين الذين كانوا يشكّلون قوة استمرار النظام الأسدي. ومع ذلك يتمّ التعامل معهم وكأنّهم خارجون عن النظام الجديد. وهذا ما يمكن أن يجد تفسيراً له مثلاً، في التلاقي بين رئيس حزب التوحيد وئام وهاب وقادتهم الروحيين، حول طلب تأمين حماية دولية لهم، وفي عدم ممانعة أن تأتي هذه الحماية من دروز الجيش الإسرائيلي لمنع إبادتهم. فما يتعرّض له دروز سوريا يجعل الضرورات تبيح المحظورات. ولكن يبقى أنّ كل الخيارات التي يواجهونها صعبة ومعقدة وخطيرة. فحلم إقامة الدولة الدرزية بين لبنان وسوريا وإسرائيل يبقى بعيد المنال ومستحيلاً سياسياً وجغرافياً ودولياً. وحلم الحصول على حقوق المواطنية والأمن في ظلّ أي نظام حكم جديد يبقى صعباً من دون الإقرار بضرورة قيام نظام حكم لامركزي يحافظ على الهويات والتعددية في ظلّ الوحدة ويلغي الفوارق والاتهامات بالخيانة.

لمتابعة أحدث وأهم الأخبار عبر مجموعتنا على واتساب - اضغط هنا

زر الذهاب إلى الأعلى