صوت المسيحيين في برالياس… حضور يتجاوز الأرقام

كتبت كارين القسيس في “نداء الوطن”:
في زمنٍ تتكاثر فيه الاصطفافات وتضعف فيه معاني المواطنة، تطلّ الانتخابات البلدية في بلدة برالياس ليس كمجرد استحقاق إداري عابر، بل كمرآة تعكس هوية المكان ومختبر حيّ لاختبار مدى تماسك نسيجه الاجتماعي. المسألة لا تتوقف عند انتخاب مجلس بلدي جديد، بل تتعداها إلى إعادة صياغة العلاقة بين المواطنين وأرضهم، وبين مكوناتهم الاجتماعية المختلفة على قاعدة الشراكة والاحترام المتبادل. فبرالياس اليوم أمام مفترق طرق يتجاوز بحساسيته بعض الاستحقاقات الوطنية، لأن ما هو على المحك ليس إدارة محلية فحسب، بل مستقبل نموذج تعايشي لطالما تميّزت به.
في قلب هذا الاستحقاق، تبرز رمزية الحضور المسيحي الذي رغم تقلصه العددي بسبب ظروف الهجرة، لا يزال فاعلاً في عمق الحياة العامة. نحو 400 ناخب مسيحي مسجّلين، يشارك منهم فعلياً حوالى 250، لكن هؤلاء لا يصوتون كأفراد فقط، بل كمكوّن متجذّر في الأرض وفي ذاكرة البلدة.
عودة العائلات المسيحيّة إلى المشهد الانتخابي لا تحمل طابعاً طائفياً، بل تأتي تحت عنوان الشراكة الكاملة، شراكة لا تستجدي تمثيلاً، بل تطالب بحق، انطلاقاً من موقعها الطبيعي في نسيج برالياس، ومن قناعة أنّ التعددية ليست عبئاً بل قيمة مضافة.
مرشحو الرئاسة يدركون هذا البعد جيداً. الدكتور رضا الميس، يرفع في حملته شعار التعددية كغنى لا كتهديد. ويؤكد في حديث لصحيفة “نداء الوطن” عمق العلاقة مع المسيحيين في البلدة، لا بوصفها علاقة ظرفية أو انتخابية، بل كشراكة راسخة في التاريخ والممارسة، ويعكس ذلك من خلال لائحة تضم أطيافاً سياسيّة واجتماعية متنوعة، من “الجماعة الإسلامية” و”تيار المستقبل” إلى “القوات اللبنانية”، وصولاً إلى تبني ترشيح مختار مسيحي ضمن التشكيلة، تأكيداً لنهج التمثيل المنصف والشامل.
ومن جهته، يرفض الميس منطق الإقصاء ويُشدّد على أنّ المجلس المقبل يجب أن يُمثّل الجميع ويعمل للجميع.
أمّا المرشح لعضوية البلديّة، منير القسيس، فيرى في هذه الانتخابات لحظة لإعادة تثبيت الوجود والتأكيد أن الحضور المسيحي ليس تفصيلاً عددياً، بل هو مكوّن فاعل وشريك في صناعة القرار المحلي. وإن لم يكن هذا المكوّن هو الأكبر من حيث العدد، فإنه يمتلك ما يكفي من الوعي والحضور ليكون عنصراً حاسماً في حماية هويّة البلدة التعددية.
ويوضح القسيس أنّه ليس المسيحي الوحيد في اللائحة، فالأخيرة تضم أيضاً مرشحاً مسيحياً آخر، فؤاد القاضي، مشدداً على أنّ الانتخابات شأن محلي لا مجال فيه للمزايدات الحزبية أو الطائفية، بل هو رهان على وعي أبناء البلدة أنفسهم.
ولا تقف المنافسة عند لائحة واحدة، إذ برزت لائحة “برالياس بالقلب” كمثال على التمثيل المتكامل، مع مشاركة صريحة لمرشحين مسيحيين هما عزيز الشيباني وميشال الهندي. اسماعيل رضا عسكر وهو أحد مرشحي هذه اللائحة يؤكد لصحيفتنا أنّ التعدّد لا يُستعمل كشكل أو غطاء، بل هو جوهر التجربة البلدية في برالياس، حيثُ لا يوجد غرباء أو طارئون، بل أبناء بيت واحد يربطهم النسب والتاريخ والمصير.
ويُشدّد على أنّ أي محاولة لتشطيب اسم مسيحي هي موقف مرفوض أخلاقياً وسياسياً، لأنها تسيء ليس فقط لفئة معينة، بل لفكرة برالياس نفسها كبلدة تتشارك في المصير.
وهنا، تصبح الانتخابات اختباراً حقيقياً لما بعده. فهل تكون صناديق الاقتراع انعكاساً فعلياً لنوايا الشراكة، أم أنّ التمثيل سيتأرجح بين الحسابات الضيقة والمساومات؟ في كل صوت مسيحي يُدلي بصوته اليوم، لا يُنتخب مرشح فحسب، بل يُصان تاريخ ويُجدد الالتزام بهوية جامعة. فالحضور المسيحي، مهما تراجع عددياً، لا يزال يمثّل قيمة معنوية ووطنية تُقاس بمفاعيلها لا بأعدادها، ويستحق أن يُترجم فعلاً تمثيلياً لا شعاراً عابراً.
برالياس، البلدة التي وقفت في وجه الانقسامات يوم كانت الطوائف تنكمش على نفسها، لا يجوز لها أن تقع في فخ الإقصاء في لحظة تعيد فيها إنتاج ذاتها. إنها تستحق مجلساً بلدياً يليق بتجربتها، يحمل قصتها في وجدانه، ولا يسقط أحداً من ذاكرتها. لأنّ الشراكة في هذه البلدة ليست مطلباً، بل مسؤوليّة لا تُبرّرها السياسة، بل يفرضها الضمير.