البابا فرنسيس أحبّ لبنان ودافع عنه حتى الرمق الأخير

بعد انتخابه بابا على السدة البطرسية، وهو البابا السادس والستون بعد المئة، لم يتردّد الكاردينال خورخي ماريو بيرجوليو في اختيار اسم جديد له، وهو فرنسيس تيمنًا بالقديس فرنسيس الاسيزي، الذي اشتهر بتجردّه عن كل ما هو أرضي، ومساعدته للفقراء، وهو الفقير الذي لم يكن يملك شيئًا من متاع الأرض. وعلى مثال هذا القديس العظيم في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية كان البابا فرنسيس متواضعًا، وهو الذي ألغى عقب انتخابه الكثير من التشريعات المتعلقة بالبابوية. وعلى سبيل المثال أقام في بيت القديسة مرثا لا في المقر الرسمي في القصر الرسولي.
وعُرف البابا فرنسيس منذ أن كان رئيس أساقفة الارجنتين بالبساطة والبعد عن التكلف في التقاليد. ففي خلال الأيام الأولى من حبريته أجرى تعديلات عديدة على التقاليد البابوية، فاحتفظ بالصليب الحديدي الذي كان يرتديه كرئيس أساقفة ولم يرتد الصليب الذهبي. كما أطلّ بغفارة – بطرشيل – عادية بيضاء اللون، بدلاً من الحمراء التي يفرضها التقليد. خلال استقباله الكرادلة في اليوم الأول بعد انتخابه، استقبلهم واقفًا غير جالس على عرشه، كما توجه لمصافحة بعض الكرادلة مغادرًا ما كان يُسمّى العرش البابوي. وخرق مجموعة أخرى من قواعد البروتكول المتعلقة باستقبال الكرادلة وكذلك السفراء، ورفض الإقامة في القصر الرسولي المقابل لساحة القديس بطرس، وفضل الإقامة في بيت القديسة مرثا، وهو نزل صغير لاستقبال ضيوف الفاتيكان، ليكون بذلك أول بابا منذ بيوس العاشر لا يتخذ من القصر الرسولي مقرًا دائمًا لسكناه.
ما كان يميز البابا فرنسيس عن غيره من البابوات، باستثناء البابا القديس يوحنا بولس الثاني، أنه كانت له علاقات أكثر من جيدة مع أبناء الجالية اللبنانية في الأرجنتين يوم كان كردينالا على العاصمة الأرجنتينية. وهذه العلاقة ترسّخت أكثر عندما أصبح بابا، فكان خير مدافع عن هذا البلد، الذي وصفه البابا القديس بأنه رسالة أكثر منه وطنًا عاديًا. وقد تجّلى هذه الأمر في أكثر من مناسبة، ولاسيما في اللقاء الذي جمع مسؤولي الكنائس في لبنان، وهم البطاركة الكاثوليك والبطاركة الأرثوذكس والسريان والأرمن الأرثوذكس، فضلا عن مسؤولي الكنائس الإنجيلية، وذلك بهدف تكوين رؤية مسيحية موّحدة عن كيفية مساعدة لبنان المثقل بأزمات سياسية واقتصادية حادة، وعلى الخروج من هذا الوضع الصعب الذي لم يسبق أن شهد مثيلا له خلال تاريخه الحديث.
وقد حمل اللقاء العديد من الإشارات البليغة وكان بمثابة سينودس مصّغر يدل إلى أن الديبلوماسية الفاتيكانية وضعت القضية اللبنانية في سلم أولوياتها، خصوصا بعدما باتت على بينة بالأرقام والوقائع من الخطر الذي يتهدد وجود المسيحيين ودورهم في لبنان، علما أن البحث في اللقاء لم يُحصر بأوضاع المسيحيين فحسب، وإنما بمصير لبنان ومستقبله، لأن الفاتيكان ينطلق دوما من التماثل بين مصير الوجود المسيحي ومصير لبنان ككل. ومن الطبيعي أن النقاش تناول مسألة الوجود المسيحي في الشرق، حيث أن الفاتيكان مواكب لمسألة الأقليات ومتوجس من التحّولات ومن التغيير الذي يلوح في الأفق. ومن الطبيعي أيضًا أن يكون مستقبل الوجود المسيحي في لبنان هو المحور والهدف في ظل “أزمة وجودية” يمر بها. فإن الفاتيكان لم يدخل ولا مرّة في التفاصيل السياسية اللبنانية، بل كان يلجأ دائمًا الى جمع رؤية موحّدة لأن البابا كان يعرف كل ما يدور في لبنان، وكانت دوائر الفاتيكان تحفظ غيبًا الاختلافات والنقاشات السياسية وما يدور في المؤسسات الرسمية والدينية وكل التفاصيل المتعلقة باليوميات السياسية والمالية والاقتصادية.
ففي هذا اللقاء لم يكن الفاتيكان يريد سوى رفع مستوى النقاش، لأن ما كان يصبو إليه البابا فعليا من خلال دعوته القادة الروحيين هو أن يسمع منهم جميعا رؤيتهم للبنان تحت عنوان له بُعد آخر: “ماذا يريد المسيحيون من لبنان، وماذا يريدون له، وماذا يفعلون له؟
تكمن بساطة هذه الفكرة، في أنها عميقة بمدلولاتها وتأثيراتها المستقبلية، لأنها بمثابة هزة ضمير للمسؤولين الروحيين، في التفكير جديا عما يمكن تقديمه لوطنهم. فالمسيحيون الذين كانت لديهم رؤية للبنان في ماضيه وحاضره، وكان ولا يزال لهم دور أساسي فيه، يفترض أن يكون لديهم رؤية مستقبلية عن الوطن الذي يريدونه، بعيدا عن أي أفكار سياسية أو دستورية ونقاشات تفصيلية داخلية.
فقد أراد البابا فرنسيس من خلال هذا اللقاء توجيه الرسائل في أكثر من اتجاه، وهي كالتالي:
-من أجل إبقاء المسيحيين في أرضهم وعدم الهجرة، بل على العكس التشبّث بوطنهم، وعدم تركه على رغم الظروف الصعبة، والعمل للحد من الهجرة وتحديد السبل والوسائل التي تخدم هذا الهدف.
-إعطاء الأمل للمسيحيين في أنهم غير متروكين لقدرهم ومصيرهم الغامض، وأن الفاتيكان يتابع قضيتهم عن كثب، وهو أكثر من حريص على بقائهم ووجودهم ودورهم في لبنان والمنطقة.
-من أجل وحدة الموقف بين جميع المسيحيين أولا، على أن يمهّد ذلك لوحدة موقف بين كل الطوائف في مقاربة الشؤون اللبنانية الوطنية.
-رسالة موّجهة الى جميع القوى في لبنان بأن الفاتيكان حريص على جميع اللبنانيين، ولا يميّز بين المسيحيين والمسلمين، وبأنه حريص على نموذج التعايش.
-رسالة موّجهة إلى المجتمع الدولي، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأميركية، بأن الفاتيكان لن يسمح بأن يكون لبنان لقمة سائغة على أي طاولة مفاوضات يمكن أن تتقّرر فيها مسائل لا علاقة لها بسيادة لبنان واستقلاله، وبالتالي، فإن الفاتيكان لن يسمح بأي مقايضة على حساب لبنان وقضيته ودوره التاريخي النموذجي على مستوى الرسالة.
بعد هذا اللقاء لم نعد نرى صلبانًا مذهبة على صدور البطاركة والمطارنة.