خمسون عاماً على 13 نيسان… لو كانوا يعلمون

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
بعد خمسين عاماً على تاريخ 13 نيسان هناك من يقف على حافة التاريخ كي يجري جردة حساب ونقداً ذاتياً حول مسؤولية الحرب التي اندلعت ذلك اليوم ودمّرت الدولة والبلد والنظام والعلاقات المؤسِّسة للكيان. اكتشف مشاركون في الحرب ومساهمون في تفجيرها أنّهم كانوا ضالّين، وأنّهم دمّروا الوطن في ساعة تقدير خاطئ وعجزوا عن بناء النظام البديل، وأنّهم كانوا يدمّرون أنفسهم أيضاً ويُسقِطون الهيكل على رؤوس الجميع. اعتقدوا أنّهم سينتصرون في صراع يظهر اليوم بعد كل هذه التجارب أن لا خروج منه، وأنّ الكل كان مهزوماً.
لم يكن محسن ابراهيم، أمين عام منظمة العمل الشيوعي، وأمين سر الحركة الوطنية، وأقرب المقربين إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وإلى رئيس الحركة الوطنية كمال جنبلاط، هو الوحيد الذي أجرى مراجعة نقدية متأخِّرة لمسألة الدخول في الحرب.
في المهرجان التأبيني الحاشد الذي أقيم في ذكرى أربعين أمين عام الحزب الشيوعي السابق، الشهيد جورج حاوي، في قاعة الأونيسكو في 7 آب 2005 قال ابراهيم: “هل تراني في هذا التقديم التكريمي لما كان عليه دور الحركة الوطنية اللبنانية وبرنامجها، وقد ساقني إليه واجب تكريم جورج حاوي بصفته أحد بُناتها الكبار، هل تراني أردت الإفلات من مسؤولية النقد الصريح لما كان من أخطاء هذه الحركة الوطنية وبعضه كان قاتلاً؟ كلا بالتأكيد، فليس هذا نهجي ولا هو نهج رفيق دربي أبي أنيس. وإذا كان ثبت الأخطاء هنا يطول فإنني أكتفي بإيراد اثنين منها كان ضررهما عظيماً على الحركة الوطنية اللبنانية وعلى البلد في آن.
الخطأ الأول: أننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً.
والخطأ الثاني: أننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي. فكان ما كان ـ تحت وطأة هذين الخطأين ـ من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بُنية البلد ووجهت ضربة كبرى إلى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعداً في يوم من الأيام”.
جورج حاوي سبق ابراهيم
كان جورج حاوي قد سبق محسن ابراهيم إلى عملية نقد ذاتي متقدّم ولم يكتفِ بالنظريات بل ذهب إلى النواحي العملية عندما قرّر إسقاط خطوط التماس ولقاء خصوم الزمن القاتل في الحرب. ومن هذه الزاوية كانت لقاءاته مع قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع. تلك اللقاءات التي أعدّ لها المسؤول العسكري للحزب الياس عطالله، كانت مبنية على أساس ثابت أكثر من لقاء كمال جنبلاط وبشير الجميل في 28 أيار 1976، ولكنها أيضاً لم تصل إلى نتائج تخدم إعادة بناء الدولة بسبب جوهري يتمثل بسيطرة “حزب الله” مع النظام السوري على الحياة السياسية في لبنان وملاحقة “القوات” وحل الحزب واعتقال جعجع.
محسن ابراهيم في تجربته السياسية بعد عام 1982 بقي ملتصقاً بياسر عرفات وهندس معه طريق الوصول إلى اتفاقات أوسلو، ولم يسامح أبداً النظام السوري، ولم يقبل الانتفاع من خيراته في لبنان بعد العام 1990. وفي المقابل بقي هذا النظام يعتبره عدواً داخل الدار.
لم يقبل محسن ابراهيم فكرة اغتيال جورج حاوي. وإن كان قابلاً بانفتاحه على القوى التي كان يعتبرها انعزالية وأساس اليمين اللبناني المتحالف مع الغرب. اكتشف مع حاوي أن اللقاء مع هذه القوى يبقى أقصر الطرق نحو استعادة الدولة التي عمل الجميع على هدمها. ابراهيم كان متأخراً على النقد الذاتي الذي أجراه حاوي خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لأنه لم يكن يراهن على بقاء النظام السوري وسيطرته على لبنان. ولذلك لم يكن على محسن ابراهيم أن يقبل فكرة اغتيال جورج حاوي الذي أطلق معه “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”. فتاريخ الرجل لم يشفع له ولم يؤمّن له الأمان. لم يكن بالنسبة إلى “حزب الله” المقياس هو المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، بل الولاء لـ “الحزب” ولسيطرته على لبنان. هكذا بالمنطق الذي اغتال فيه النظام السوري كمال جنبلاط اغتال “حزب الله” جورج حاوي.
لقاء بشير وجنبلاط
لم يحقق اللقاء أي هدف. كان على جنبلاط أن يلتقي بشير قبل لقائه حافظ الأسد في 28 آذار 1976. وكان على بشير أن يقبل بالتعاطي مع جنبلاط لمنع دخول الجيش السوري. حاول جنبلاط الانتقام من الموارنة وإسقاط النظام بالحصول على موافقة حافظ الأسد. واعتقد بشير أن خلاف الأسد مع جنبلاط وعرفات يفيده ويخدم “الجبهة اللبنانية”.
أتى لقاء جنبلاط وبشير لأسباب إنسانية أولاً بعد مقتل ليندا جنبلاط شقيقة كمال في بدارو، ولم يكن مبنياً على أهداف سياسية. لم يكن من الممكن التأسيس على مثل هذا اللقاء العارض. قبله كان استفاد جنبلاط من الدعم السوري لاحتلال الدامور. بعده استفاد بشير من خلاف جنبلاط والأسد لإسقاط مخيم تل الزعتر.
فرح المسيحيون لاغتيال كمال جنبلاط. انتقم الدروز من المسيحيين بعد اغتيال كمال جنبلاط. دفع المسيحيون والدروز ثمن الاتفاق مع النظام السوري كما دفعوا ثمن الخلاف معه.
لم يكن كمال جنبلاط يمثل نفسه في تلك المرحلة بل كان يمثل الحركة الوطنية والتوجه العام اليساري الإسلامي الذي كان يعتبر أن “دولة الموارنة” يجب أن تسقط وأن تقوم محلّها دولة أخرى تتحالف مع الفلسطينيين وتحرّر فلسطين.
النظرة الدونية للجيش
هي النظرة الدونية تجاه الدولة اللبنانية وتحميل المسيحيين مسؤولية قيامها بحيث بقي العاملون على هدمها يعتبرون أنّها لم يكن يجب أن تكون، وأنّه يجب هدمها. هكذا بدأت عملية تدمير هذه الدولة عام 1958 واستؤنفت العملية منذ عام 1965 بعد إباحة لبنان أمام السلاح الفلسطيني. اتفاقية القاهرة كانت نتيجة طبيعية لما حاولت هذه القوى أن تفرضه على “دولة الموارنة”. اليوم بعد خمسين عاماً يأتي من يحمّل مسؤولية اندلاع الحرب في لبنان للموارنة لأنّهم قبلوا باتفاقية القاهرة وتنازلوا عن السيادة اللبنانية. كما يأتي من يحمّل الدولة التي أسقط سيادتها وقسّم جيشها مسؤولية الفراغ الأمني في الجنوب منذ العام 1965. نظرية تخوين الجيش اللبناني تستمر اليوم في استراتيجية “حزب الله”. وهذا ما ظهر في الهتافات ضد الجيش وهو ينتشر في منطقة حوش السيد علي. بعد خمسين عاماً يأتي من ينظر لتحميل المسؤولية في عدم التصدي لإسرائيل لتلك الدولة ولذلك الجيش الذي صادروا دوره وقسموه في تغطية غير مقنعة لتبرير سلاح “حزب الله”. بينما لم يكن الجنوب ولبنان بأمان إلا عندما كان الجيش يسيطر على الحدود وعلى الأمن في كل لبنان.
خطيئة “الحزب”
ما حصل من رهان على السلاح الفسطيني تكرر في الرهان على سلاح “حزب الله”. بعد هزيمة “الحزب” العسكرية واغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، خرج من يقول إن “الحزب” حمّل لبنان أكثر من طاقته واعتقد أنه بسلاحه يمكن أن يسيطر على القرار اللبناني. ولكنّه كان يأخذ لبنان إلى الانفجار أكثر من مرة منذ العام 1990. وقد تكرّرت محاولاته في مناسبات مختلفة لعل أهمّها اغتيال الرئيس رفيق الحريري. “لو كنت أعلم” قالها نصرالله بعد حرب تموز 2006، وربّما كرّرها أكثر من مرة منذ أعلن حرب مساندة غزة في 8 تشرين الأول 2023 بعد عملية طوفان الأقصى. ولم يكن اغتياله في 27 أيلول 2024 نهاية الأزمة لأخذ العبر من التجارب السابقة، بل لا يزال “الحزب” يعمل على تعميق الهوة وعلى المضي في خياراته القاتلة والانتحارية والمدمِّرة للدولة.
إذا كانت الحركة الوطنية تعاونت مع منظمة التحرير الفلسطينية لهدم الدولة القائمة قبل 1975 لبناء دولتها محلها، فإن “حزب الله” بعقيدته لا يعترف بمثل هذه الدولة ويعتبر أنّها نقيضة لوجوده، سواء أكانت “دولة الموارنة” أم “دولة كمال جنبلاط”. ولذلك لا يزال يعمل على هدمها وبناء دولته على أنقاضها. وحتى لو كان يعلم أنّها مهمة صعبة أو مستحيلة، فهو يعمل على أن يجعل بناء “الدولة” مستحيلاً.
مسؤولية المسيحيين
معظم الكتب والكتابات عن الحرب كانت من الجانب المسيحي. كثيرون حمّلوا مسؤولية الحرب للمسيحيين لأنهم لم يحسنوا الإمساك بالدولة قبل الحرب وتنازلوا عن السيادة. وأنهم تنازلوا بإرادتهم وليس تحت ضغط “الشارع الثوري”.
هل كان التنازل عن الصلاحيات أو عما كان يسمى امتيازات مسيحية في السلطة سيلغي الحرب؟
الجواب سلبي لأن الحرب مستمرة على الوجود والحضور المسيحي بعد التنازلات في “الطائف”. اعتبر الطرف الآخر أن “الطائف” خطوة لاستكمال تحطيم الحضور المسيحي بدل أن يكون استقراراً سياسياً يقوم على التوازن والتوافق في صلاحيات السلطات من أجل إقامة دولة ومؤسسات بعيداً من تصفية الحسابات.
كأن الذين فجروا الحرب لهدم دولة لبنان الكبير ضاعوا في متاهات الخطيئة والندم. كأنهم يقولون بعد الخراب الكبير وبعد العجز عن بناء الدولة البديلة: “أخطأنا سامحونا نريد الدولة التي دمّرناها”.