حرب بلا رصاص… كيف كشفت منصّة X الحسابات السوداء

 لم تعد الحروب المعاصرة تُخاض بالسلاح وحده، بل باتت المنصات الرقمية ميداناً موازياً لا يقل فتكاً وخطورة. في هذا السياق، شهدت منصة X بعد أشهر من انطلاق معركة “طوفان الأقصى” ظهور عدد كبير من الحسابات التي اتخذت طابعاً مدنياً ناعماً، وقدّمت نفسها كمستخدمين عاديين من لبنان، الخليج، وسائر الدول العربية، وتحدثت بلهجة مألوفة وعاطفة مصطنعة ومواقف بدت في ظاهرها رأياً حرّاً لكنها في جوهرها حملت أجندة دقيقة؛ تفكيك الجبهة الداخلية للمقاومة، وتعميق الانقسام العربي – العربي.

هذه الحسابات لم تكن عشوائية، ولا وليدة تفاعل عفوي، بل جاءت نتيجة تخطيط مسبق، ضمن ما يُعرف في أدبيات الحرب الحديثة بـ”إدارة الإدراك الجماهيري” أو Perception Management، وهي استراتيجية تُعنى بتوجيه تفكير الجماهير، ليس من خلال الكذب الفج، بل عبر روايات مغلّفة بالعاطفة ورأي عام مزور يشيّد انطباعاً زائفاً عن الواقع.

بعض هذه الحسابات برز على شكل شُبّان وشابات من الجيل الجديد، تتحدّث عن أهمية السّلام وتحاكي هموم الشعوب، تؤكد عدم جدوى الحرب وفشل المقاومة وتتعمّد مهاجمة الرموز التي تمثل الثقل الأخلاقي والسياسي للمواجهة. واللافت أن هذه الحسابات كانت تهاجم المقاومة في غزة بالتزامن مع هجومها على “حزب الله” في لبنان وعلى كل من يدافع عن القضية الفلسطينية، وكأنها تتحرك من نقطة واحدة، تحمل خطاباً واحدا، يُعاد تدويره بمئة لغة ولهجة وصورة.

ما كشف حقيقةَ بعض هذه الحسابات مؤخراً، لم يكن سوى خطأ تقني قاتل أو تسريب مقصود؛ فمثلاً اتضح أن إحدى أشهر هذه الحسابات التي تجاوزت عشرات الآلاف من المتابعين خلال سنة واحدة ما هي إلا رجل يُدير حساباً وهمياً باسم فتاة عربية، مستخدماً صورة معدّلة بتقنيات الذكاء الاصطناعي مأخوذة من وجه إحدى الممثلات الإباحيات. هذه الحقيقة انتشرت أمس على منصّة X وأشعلت جبهة حامية بين روّادها. 

ثمة أسئلة كانت لا تزال مؤجلة استوجبت الوقوف عندها اليوم، لأنّ المسألة تجاوزت حدود الحساب المزور إلى سؤال مركزي: من يُشغّل هذه الحسابات؟
هل تقف خلفها غرف عمليات استخباراتية؟ هل تُدار من قبل شركات متخصصة بالحرب النفسية الرقمية وممولة من أنظمة أو جهات إقليمية؟ ولماذا بدأت تتساقط الآن؟ هل تم كشفها بفعل أخطاء فردية؟ أم أن هناك صراع ما أدّى إلى تسريب الأسماء؟ أو أن دورها قد انتهى ضمن خطة زمنية محسوبة؟ كلّ الاحتمالات مفتوحة. لكن المؤكد أن هذه الحسابات كانت جزءاً من حرب ناعمة مبرمجة، هدفها ليس فقط تقويض موقف المقاومة، بل زعزعة ثقة الناس بها وإغراق الشعوب في خطاب اليأس والانقسام.

ما يحدث اليوم يعيد التذكير بأمر طرحه نشطاء المقاومة مع بدء عملية “الطوفان” في السابع من اكتوبر من العام 2023، حيث دأب هؤلاء على التركيز على أدوات الحرب التي لم تعد تقتصر على السلاح والصاروخ، إذ إنّ حساباً يحمل صورة جذابة مجهولة على منصة تواصل، قد يكون أخطر من مدفع موجّه إذا ما أحسن التسلّل إلى لاوعي الجمهور.

في عصر الحرب الناعمة، لم يعد ممكناً فصل المعارك العسكرية عن المعارك الإعلامية، ولا يمكن للشعوب أن تبقى متلقية ساذجة للمحتوى مهما بدا بريئاً أو مقنعاً. وهنا تظهر الحاجة إلى وعي رقمي سياسي لا يكتفي بالشعارات، بل يُفكك الخطاب ويتتبع السياق ويُدرك أن جزءاً من المعركة يتم اليوم داخل هواتفنا بصمت وبثمن باهظ. لذلك علينا أن نعي أن سقوط الأقنعة لا يوقف الحرب، فالحرب مستمرة ليس فقط على الأرض بل في الفضاء الالكتروني، على عقول الناس وذاكرتهم الجماعية. 

لمتابعة أحدث وأهم الأخبار عبر مجموعتنا على واتساب - اضغط هنا

زر الذهاب إلى الأعلى