هذا هو الفرق بين خطاب القسم و الواقع

ما بعد 21 آب من العام 1982، وهو اليوم الذي انتخب فيه الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميل، لم يكن كما قبله. فعندما كان “البشير” قائدًا لـ “القوات اللبنانية” كانت نظرته إلى القضايا الوطنية متأثرّة بجو الحروب المتتالية، التي شهدها لبنان بدءًا من 13 نيسان من العام 1975 حتى اللحظة التي انتخب فيها رئيسًا للجمهورية.
أمّا بعد هذا التاريخ فإن نظرة بشير الجميل إلى القضايا الوطنية ذاتها تغيّرت وأصبحت الشعارات التي تمسّك بها أكثر واقعية، وأكثر تعبيرًا عن هواجس معظم اللبنانيين، الذين جذبهم شعار الـ 10452 كلم مربعًا، مع ما يعنيه من أنه لم يعد قائدًا عسكريًا، بل أصبح رئيسًا لجميع اللبنانيين. فبعدما كان قائدًا عسكريًا ورمزًا لشريحة واسعة من اللبنانيين على الساحة المسيحية تحّول إلى رئيس للجمهورية اللبنانية، التي أرادها أن تكون قوية بكل ما لكلمة قوة من معانٍ، مع ما يتطلبه الوصول إلى هذه الغاية من جهود مضاعفة لا تتوقف عند حدود.
صحيح أن الرئيس الجميل لم يتسنَ له القاء خطاب القسم، إلاّ أن المواقف التي أعلنها في الفترة الفاصلة بين يوم انتخابه ويوم استشهاده كافية لمعرفة المسار، الذي كان سيسلكه طيلة فترة حكمه، وهو الذي أقنع جميع الذين كانوا في صفوف الخصوم بأن انتقاله من المجلس الحربي إلى القصر الجمهوري لن يكون سهلًا إن لم يقف إلى جانبه في مشروع إعادة بناء الدولة على أسس سليمة وصحيحة جميع الذين انتخبوه أو أولئك الذين كانوا ينظرون إليه نظرة قلق ولم ينتخبوه.السبب الوحيد للعودة بالزمن إلى 43 سنة خلت هو ما تشهده الساحة السياسية وما فيها من تناقضات واضحة بين الشعارات وبين الواقع. فالشعارات تبقى مجرد وعود وتعهدات إن لم تتطابق مع ما في الواقع اللبناني من مفاجآت غير محسوبة النتائج والانعكاسات.
عدد قليل جدًّا من اللبنانيين، الذين لم يتفاعلوا مع خطاب القسم، الذي أدّاه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون قبل ما يقارب الثلاثة أشهر من الآن. وقليلون هم النواب الذين لم يصفقوا طويلًا عند كل تعهد ووعد. وقليلون هم الذين لم يصدّقوا أن ما سمعوه سيتحّول إلى حقيقة. فخطاب القسم، الذي أعدّ بعناية فائقة، قد أصبح محطة أساسية في مسيرة العهد، ويمكن العودة إلى ما تضمّنه من مواقف متقدمة عن سائر مواقف ما قبل وما بعد عند كل مفترق طرق.
ولكن هذا الخطاب، كما تصفه أوساط سياسية معنية بإنجاح العهد ومسيرته الإصلاحية والإنقاذية، سيبقى حتى إشعار آخر بعيدًا عن الواقع السياسي المركّب والمعقد في آن. ولعل أكبر دليل على أن ما بين تعهدات هذا الخطاب التاريخي والواقع اللبناني بونًا شاسعًا أن الرئيس عون وجد نفسه في باريس مضطّرًا إلى نفي أن يكون “حزب الله” هو من أطلق الصواريخ من على منصّة بدائية الصنع في اتجاه مستوطنة المطلة. وفي هذه الجدلية ما بين ما هو نظري ومبدئي وبين الواقع يمكن استنتاج أمر مهم للغاية، وهو أن روما من فوق هي غير ما هي عليه من تحت. فمن فوق يمكن لأي مسؤول أن يرى الأمور من زوايا متعدّدة. أمّا الرؤية من تحت فتبقى محصورة بزاوية ضيقة الأفق.ففي خطاب القسم قال الرئيس عون: “عهدي أن أمارس دوري كقائد أعلى للقوات المسلّحة وكرئيس للمجلس الأعلى للدفاع بحيث اعمل من خلالهما على تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح.
دولة تستثمر في جيشها ليضبط الحدود ويساهم في تثبيتها جنوباً وترسيمها شرقاً وشمالاً وبحراً ويمنع التهريب ويحارب الإرهاب ويحفظ وحدة الأراضي اللبنانية ويطبق القرارات الدولية ويحترم اتفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الاسرائيلية على الأراضي اللبنانية، جيش لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقاً لأحكام الدستور. عهدي أن أدعو الى مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يمكّن الدولة اللبنانية، أكرّر الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي ورد عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية”.
فهذه التعهدات ستبقى المرجع الصالح في كل خطوة من خطوات مسيرة العهد، ولكنها ستبقى مجرد تعهدات ما لم تقترن بإجراءات عملية من شأنها تجميل ما في الواقع من بشاعات، وتذليل ما يعترض هذه المسيرة من عقبات.والنجاح منوط ايضا بدعم جميع القوى لسيد العهد في مسيرة الانقاذ التي يقودها بصدق واقدام وعزم.