الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد: غياب الحزم والشفافية

كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
تصدّر مطلب مكافحة الفساد اهتمامات اللبنانيين، لا سيما بعد “فورة” 17 تشرين 2019 التي عكست استياءً شعبياً واسعاً من استشراء الفساد في المؤسسات العامة. ورغم إقرار قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عام 2020، ظنّ كثيرون أن البلاد تسير نحو مساءلة حقيقية.

لكن الواقع أتى مغايراً للتطلعات، إذ تواصل انحدار لبنان في مؤشر مدركات الفساد، حيث تراجع تقييمه من 25 درجة عام 2020 إلى 22 في 2024. وعلى الرغم من هذا الإطار القانوني، لم يلمس اللبنانيون أي تحسّن في علاقتهم بإدارات الدولة وآليات المساءلة والضبط الجدي لمختلف أشكال الفساد.

صلاحيات واسعة وإخفاق في التنفيذ

نصّ القانون على صلاحيات جوهرية للهيئة، تشمل استلام ومراجعة التصاريح عن الذمة المالية للمسؤولين والوزراء والنواب وكبار الموظفين، بهدف التدقيق في أي إثراء غير مشروع. كما منحها القدرة على تلقي الشكاوى والإخبارات حول الفساد، والتحرك تلقائياً من دون الحاجة إلى إذن مسبق. ورغم أن الهيئة استلمت أكثر من 20,000 تصريح عن الذمة المالية منذ إنشائها، فإنها لم تجرِ أي تدقيق حقيقي في هذه البيانات، بل اكتفت بإرسالها للحفظ في مصرف لبنان، ما يثير تساؤلات حول مدى التزامها بمهمتها.

في هذا السياق، تلفت الناشطة في مجال مكافحة الفساد سيرينا القدّوم إلى أن “الهيئة يقع على عاتقها دور أساسي في كشف الارتكابات المالية، وإذا لم يتم التدقيق في ثروات المسؤولين والتغيّرات غير المبررة في ممتلكاتهم، فإن ذلك يُعدّ تعطيلاً لدور القضاء وغطاءً ضمنياً لممارسات غير قانونية”. وتؤكد أن تقديم تصريح كاذب يُعد جريمة يعاقب عليها القانون، لكن عدم التحقق من صحة هذه التصاريح يفرّغ القانون من مضمونه.

تحرّك محدود ونتائج غائبة

شهدت الفترة الأخيرة تحريك عدد من ملفات الفساد، حيث مثل بعض الوزراء السابقين أمام القضاء في قضايا تتعلق بمخالفات جسيمة خلال توليهم مناصبهم. وتطرح هذه التطورات تساؤلاً حول فعالية السلطة القضائية في محاسبة الفاسدين، خصوصاً أن قرارات الحكومات السابقة تضمّنت مخالفات صريحة للقانون من دون أن يتم تصحيحها أو محاسبة المسؤولين عنها.

ورغم تحرّك القضاء اللبناني في بعض الملفات، لا يزال يفتقر إلى جرأة محاسبة المسؤولين الكبار. في المقابل، تشدّد القدّوم على أنّ “دور الهيئة الوطنية يبقى حاسماً، كونها الجهة المخوّلة باستقصاء جرائم الفساد، عفواً أو بناءً على ما تتلقاه من كشوفات، وكشف أي تضليل في التصريحات المالية. وأنّ تحركات الهيئة يجب ألا تقتصر على تلقي المستندات، بل يجب أن تتبعها إجراءات تدقيق حقيقية لمعرفة ما إذا كان هناك تصريح كاذب أو تضخم غير مبرر في ثروات بعض المسؤولين”.

بين النصوص والواقع

رغم أن الهيئة تملك أدوات قانونية قوية، مثل التعاون مع هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان ومع جهات دولية والاستفادة من المعلومات ذات المصادر المفتوحة، فإنها لم تستخدم هذه الوسائل بفعالية. ومن غير الواضح إن كان التقاعس ناتجاً عن ضغوط سياسية أم عن نقص في الموارد البشرية والتمويل. لكن في الحالتين، فإن النتيجة واحدة: غياب المساءلة الحقيقية.

في هذا الإطار، تشير القدوم إلى أن “الشفافية عامل أساسي في نجاح أي هيئة رقابية، لكن الهيئة الوطنية نفسها امتنعت عن الإفصاح عن عدد الكشوفات التي تلقتها أو التي أحالتها إلى القضاء، في مخالفة لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات”. وترى أن “الهيئة أمام اختبار مصيري: إما أن تتحول إلى سلطة رقابية فعلية، أو أن تبقى مجرد واجهة شكلية لا تأثير لها”.

خطوات ملموسة لا شعارات

لا يمكن لمكافحة الفساد أن تبقى مجرد شعار يُرفع في المؤتمرات والتصريحات السياسية. فمن دون تحرّك جاد من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، سيظلّ القانون حبراً على ورق، وسيفقد اللبنانيون أي ثقة بإمكانية الإصلاح.

المطلوب اليوم هو الانتقال من الكلام إلى الأفعال: البدء بالتدقيق في التصاريح عن الذمم المالية، كشف أي إثراء غير مشروع، والتعاون الحقيقي مع القضاء لملاحقة الفاسدين. وحدها هذه الخطوات ستجعل اللبنانيين يثقون بأن هناك جهة قادرة على كسر حلقة الإفلات من العقاب، وإعادة هيبة القانون إلى الدولة.

لمتابعة أحدث وأهم الأخبار عبر مجموعتنا على واتساب - اضغط هنا

زر الذهاب إلى الأعلى