التعيينات القضائية بين السياسة والاستقلاليّة

كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
تشهد وزارة العدل في لبنان تحولاً غير مسبوق في طريقة إدارة السلطة القضائية. يقود وزير العدل عادل نصار هذا التوجه، واضعاً نصب عينيه هدفاً جوهرياً يتمثل في إعادة الانتظام إلى مرفق العدالة، بما يضمن سير عمله بعيداً عن التجاذبات السياسية، وهو ما يُعتبر خطوة أساسية نحو استعادة ثقة اللبنانيين بالقضاء.
لا تختلف أولويات وزارة العدل راهناً عن غيرها من الوزارات. نَكد سياسات العهد الرئاسي الماضي وأجندات من تعاقب على سلطة الوصاية، أفرغ المحاكم العليا من قضاة أصيلين وأفقدت مجلس القضاء الأعلى النصاب القانوني للاجتماع.
وبعد تعيين رؤساء الأجهزة الأمنية، واستعداد الحكومة لتعيين حاكم مصرف لبنان بعد أيام، ستتجه الأنظار مطلع الأسبوع المقبل إلى وزارة العدل، والأسماء التي يتوقع أن يحملها الوزير نصار إلى مجلس الوزراء لإعادة تكوين مجلس القضاء الأعلى، كي يتمكن بدوره من رفع التشكيلات القضائية المطلوب إقرارها لإعادة الانتظام إلى عمل المحاكم.
لقد دفع تغلغل السياسة في كل شاردة وواردة في لبنان المتابعين إلى التوقف عند تبنّي الوزير عادل نصّار، مقاربة جديدة في إدارة الوزارة منذ توليه منصبه. وعلمت «نداء الوطن» أن مراجعات القوى السياسية والقضاة لا تجد آذاناً صاغية لها داخل العدلية، حيث أطلق الوزير نصار نهجاً جديداً يقوم على اختيار القضاة وفق معايير الكفاءة والإنتاجية، متجاوزاً لعبة التوازنات السياسية والضغوط الإعلامية التي طالما أضعفت القضاء واستقلاليته. ويتجلى هذا التوجه في إصرار نصار، ورهانه على أن يقوم مجلس القضاء الأعلى بأداء دوره باستقلالية أيضاً، ويجنّب السلطة التنفيذية وضع أي ملاحظات أو تعديلات على التشكيلات القضائية المنتظرة.
المهمة الشاقة
في هذا السياق، تسير التحضيرات على قدم وساق لتعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى. وتشير المعلومات إلى أن الأسبوع المقبل سيشهد أولى وأبرز التعيينات القضائية، بحيث يحمل وزير العدل إلى الحكومة أسماء ستة قضاة: إثنان من رؤساء الغرف في محاكم الاستئناف، وقاضٍ من رؤساء غرف محاكم الدرجة الأولى، وقاضٍ عدلي من بين رؤساء المحاكم أو الوحدات في وزارة العدل، لم تنضج أسماؤهم بعد.
أما لجهة الأعضاء الحكميين الثلاثة، فالأمر مختلف، حيث رجّح متابعون كفّة تثبيت النائب العام التمييزي بالتكليف القاضي جمال الحجار في مركزه، وتقدّم القاضي أيمن عويدات على غيره من القضاة لتعيينه رئيساً لهيئة التفتيش القضائي، مع التأكيد أن البحث في إمكانية تعيين رئيسٍ جديدٍ لمجلس القضاء الأعلى غير مطروح إطلاقاً، وهذا ما بدا واضحاً من خلال التفاهم بين وزير العدل عادل نصار ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، وزيارتهما المشتركة لعرض التحديات القضائية مع رئيس الجمهورية جوزاف عون قبل أيام، مع التأكيد أن كلّاً منهما يعمل على تثبيت نهج جديد يقوم على تكريس الفصل بين السلطات.
وبهذا يصبح بإمكان الرئيس الأول القاضي سهيل عبود دعوة مجلس القضاء الأعلى إلى الانعقاد بحضور 7 أعضاء من أصل 10، وتعتبر الجلسة قانونية. ووفق معلومات «نداء الوطن»، سيتولى المجلس إقرار تشكيلات جزئية تقتصر على تعيين رؤساء أصيلين لمحاكم التمييز. الأمر الذي يخوّل الرئيس الأول عبود دعوة القضاة إلى انتخاب عضوين من بين رؤساء محاكم التمييز الجدد لعضوية مجلس القضاء الأعلى، ويفسح المجال لتعيين العضو العاشر من بين رؤساء محاكم التمييز أيضاً. وبهذا التوجه، تعود الحياة إلى مجلس القضاء الأعلى ويجتمع عندها بنصاب مكتمل، وينجز التشكيلات القضائية الشاملة، ويرفعها إلى وزير العدل ومن خلاله إلى مجلس الوزراء لإقرارها.
مصالحة بين القضاء والمجتمع
لا تبدو مهمة وزير العدل سهلة، فلطالما واجه القضاء اللبناني عراقيل سياسية حالت دون اتخاذ قرارات جريئة، سواء في ملفات الفساد، أو الجرائم المالية، أو حتى التحقيقات في القضايا الوطنية الكبرى. من هنا، فإن إعادة الثقة بالقضاء تتطلب أكثر من مجرد قرارات إدارية، بل تحتاج إلى حماية هذه السلطة من تدخلات بعض القوى السياسية التي تحاول التأثير على مسار التعيينات لترجيح كفة قضاة مقربين منها، الذين سجل تواجدهم بشكل غير اعتيادي قبل أيام في الوزارة.
قد تكون هذه المرحلة بداية لعهد جديد في القضاء، إلّا أن نجاح عهد الرئيس جوزاف عون مرتبط حكماً بصلابته وإرادته العصيّة على الانصياع لإملاءات القوى الخارجية ومصالح رؤسائها الاستثمارية، التي تبحث عن أزلام لها تنصّبهم في مراكز مالية وقضائية وأمنية. ولا شكّ بأن هذا النجاح يرتبط بإعادة الثقة بين المواطنين والسلطة الحاكمة والمحاكم، كخطوة ضرورية لضمان العدالة ومواجهة الفساد وتعزيز دور الدولة وتحصينها من الانهيار.