حلّ أزمة الودائع يحتّم مشاركة كل الأطراف

كتبت رنى سعرتي في “نداء الوطن”:
في تصاريح المسؤولين كافة من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة فوزير المال خلال لقاءاتهم مع وفد صندوق النقد الدولي، وصولاً إلى جمعية المصارف خلال زيارتها رئيس الحكومة نواف سلام هذا الأسبوع، هناك تشديد من جميع الأطراف، لم نعهده سابقاً، على تحمّل الدولة لمسؤولياتها في أي حلّ لإعادة الودائع.

هناك توافق على ما يبدو على أن الأولوية في أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي ستكون في المرحلة الأولى مخصّصة لصغار المودعين الذين هم الغالبية حيث يشكلون 97 في المئة من إجمالي عدد الحسابات وحوالى 60 في المئة من قيمة الودائع، في حال فرضنا أن صغار المودعين هم أصحاب الحسابات التي تقلّ عن 500 ألف دولار. وبالتالي فإن الحاجة الأولية ستكون لتأمين حوالى 51 مليار دولار على مدى 5 إلى 10 سنوات (وفق أي خطة قد يتم اعتمادها).

كيف ستساهم الدولة أو تتحمّل مسؤوليتها في إعادة الودائع؟ ما هي الخيارات المطروحة؟ هل احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية هو أحد الخيارات أم احتياطي الذهب الذي بلغت قيمته أرقاماً قياسية مع ارتفاع أسعار المعدن الأصفر عالمياً؟ هل ما زالت طروحات صندوق استرداد الودائع قائمة، وكيف سيتم تمويله؟

في هذا الإطار، أوضح الخبير والباحث الاقتصادي د. محمود جباعي لـ”نداء الوطن” أنه لا توجد لغاية اليوم رؤية واضحة لكيفية حلّ أزمة الودائع بل مجرّد أفكار يتم طرحها من قبل المعنيّين، مشدداً على أن حلّ أزمة الودائع يجب أن تكون من خلال مشاركة الأطراف المعنيّة أي الدولة بالتعاون مع مصرف لبنان كونه الجهة المشرفة على عمل المصارف، والمصارف المسؤولة أيضاً عن الأزمة.

وأكد أن تحديد المسؤوليات هو الخطوة الأولى وتحديد الأرقام هو الخطوة الثانية، ومن ثمّ تأمين التمويل، مشيراً إلى أن توجّه الحكومة من خلال ما أعلنه رئيس الحكومة ووزير المال هو نحو اعتماد آلية لتقسيم المودعين إلى 3 فئات: صغار المودعين، الودائع المتوسطة والودائع الكبيرة، “بانتظار تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان قريباً لكي تتبلور الرؤية حول كيفية مشاركة الأطراف المعنيّة في حلّ أزمة الودائع”، كما قال جباعي.

في الموازاة، اعتبر جباعي أن هذا الموضوع لا يمكن معالجته من قبل جهة واحدة بل يتوجب على الدولة تحمّل مسؤوليتها والاعتراف بإنفاقها لجزء من أموال المودعين، على أن يتم التدقيق وتحديد حجم هذا الجزء من قبل اللجنة الثلاثية (الدولة، مصرف لبنان والمصارف)، وفق حركة إنفاق الأموال ووفق نتائج التدقيق الجنائي التي أظهرت أن الدولة استخدمت 48 مليار دولار من مصرف لبنان أي أموال المودعين. كما لفت جباعي إلى أن مصرف لبنان سيتحمّل أيضاً مسؤولياته من خلال إعادة صياغة موجوداته والمساهمة، بالتالي، في تمويل صندوق استرداد الودائع الذي سيتغذى أيضاً بعد أن تقوم الدولة بتقييم أصولها وإداراتها والاستثمار بها من خلال الـBOT والـPPP بالإضافة إلى إمكانية الاستفادة من مشاعات الدولة (860 مليون متر مربع) عبر تأجيرها أو استثمارها بالمشاركة مع القطاع الخاص، مما سيساهم في زيادة حجم الاقتصاد وبالتالي تأمين إيرادات وأرباح إضافية للدولة يمكن أن تستخدمها في إعادة جزء من الودائع خلال فترة زمنية معيّنة، بالمشاركة مع مصرف لبنان والمصارف.

وأكد جباعي أن مشاركة الدولة ستكون حتماً عبر تأسيس صندوق لاسترداد الودائع لأنها لا تملك احتياطياً نقدياً، بل إن مصرف لبنان هو الذي يملك احتياطي الذهب والعملات الأجنبية وهو جهة مستقلّة عن الدولة، “ولا يمكن الحديث عن استخدام البنك المركزي لجزء من احتياطه قبل الاتفاق بين الأطراف الثلاثة على الرؤية التي سيتم اعتمادها لاسترداد الودائع”.

وفيما أعرب جباعي عن تفاؤله بجدّية الحكومة ووزير المال في حلّ هذه الأزمة، أشار إلى أن الاقتصاد في حاجة لتلزيم مؤسسات الدولة وإداراتها من خلال إشراك القطاع الخاص من أجل زيادة حجمه والمساهمة في خلق الوظائف وفرص العمل، كما واستثمار مشاعات الدولة للغرض نفسه، وبالتالي تحقيق الأرباح والإيرادات وتحسين معيشة المواطن والخدمات التي تقدمها الدولة له بالإضافة إلى المساهمة في ردّ أموال المودعين.

ورأى أن هذه الخطة المشتركة التي تهدف إلى زيادة حجم الاقتصاد وردّ الودائع تحتاج إلى ما بين 5 إلى 10 سنوات لكي تحقق أهدافها، بدءاً بصغار المودعين الذين سيستعيدون ودائعهم على مدى 5 سنوات وأصحاب الودائع المتوسطة والكبيرة الذين سيستعيدونها في غضون 10 سنوات.

خطة متكاملة

من جهته، اعتبر عميد كلية إدارة الاعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا بيار الخوري أنه يمكن للدولة اللبنانية أن تساهم في استرداد الودائع عبر تبنّي خطة متكاملة تعتمد على استعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة المرتبطة بالفساد والجريمة المنظمة والتهرّب الضريبي الدولي، مع إصلاحات هيكلية تعزّز الشفافية وتستعيد الثقة بالقطاع المالي. مشيراً إلى أن ذلك يتطلب إنشاء صندوق خاص يتم تمويله من مصادر متنوّعة تشمل الأموال المُستردة من قضايا الفساد عبر التعاون القضائي الدولي، مثل تتبّع الأصول في الخارج بالشراكة مع مبادرات دولية كـ “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد” وبرامج استعادة الأصول المهربة، إلى جانب بيع أصول عامة غير استراتيجية أو الحصول على دعم مالي مشروط من مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي.

وقال الخوري في هذا السياق: لا أحد ينكر أن الدولة اللبنانية مدينة للقطاع المصرفي، وهو جزء من التزاماتها المالية التي يجب تحمّلها، لكن ذلك يجب أن يخضع لشرط أساسي: “تنظيف القطاع أولاً” عبر إعادة هيكلته بشكل جذري وفرض معايير شفافية عالية، بما في ذلك مراجعة كافة الحسابات والعمليات المشبوهة في حال وجودها، وملاحقة الإدارات التي قد يتبين أنها انتهجت سياسات مُضرّة مخالفة للقوانين المرعية، أدّت إلى الأزمة.

بعد هذه الخطوة، يمكن للدولة أن تبدأ بضخ حصتها المالية تدريجياً، وفق خُطط استرداد مُحدّدة زمنياً ومالياً، تراعي أولوية حماية المودعين غير المعرّضين سياسياً وليس فقط صغار المودعين، وتستند إلى إصلاحات حقيقية في الحوكمة، بما يتوافق مع شروط داعمين دوليين كصندوق النقد الدولي، لضمان عدم تكرار الأزمات.

وأكد الخوري أن سياسات مكافحة الفساد تلعب دوراً محورياً في هذه الخطة عبر إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته لملاحقة الفاسدين وملء الثغرات القانونية التي تسمح بإخفاء الأموال، خاصة تلك المرتبطة بشبكات الجريمة المنظمة أو التهرّب الضريبي عبر الحدود. كما يمكن فرض إجراءات انتقائية على الحسابات التي تُثبت تورطها في عمليات غسل أموال أو تمويل أنشطة غير قانونية، مع تحويل هذه الأموال المصادرة إلى الصندوق. يتطلّب ذلك تعاوناً وثيقاً مع البنوك والجهات الدولية لتحديد التدفقات المالية المشبوهة وإغلاق الحسابات الوهمية.

وختم: “من الضروري أيضاً إعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر تقييم وضع البنوك العاجزة وتحويل جزء من الودائع إلى سندات حكومية طويلة الأجل بضمانات واضحة. يجب أن تُرافق هذه الإجراءات سياسات نقدية صارمة لاستقرار العملة، ومراجعة شاملة لديون الدولة لتخفيف الضغط على الموازنة. ومع ذلك، تبقى العقبة الأكبر هي الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح، خصوصاً مع هيمنة نُخب مرتبطة بشبكات الفساد، ما يستدعي ضغطاً دولياً ومحلياً لتحقيق تغيير جذري قائم على الشفافية وحوكمة فعّالة”.

لمتابعة أحدث وأهم الأخبار عبر مجموعتنا على واتساب - اضغط هنا

زر الذهاب إلى الأعلى