حسابات إسرائيل الخاطئة: التفجير المبكر لـ”البيجر” انقذ حزب الله
أظهر ما كشفه جهاز “الموساد” مؤخراً، وفقاً لما ورد في برنامج “60 دقيقة” الاستقصائي على شبكة “سي بي إس”، الإستراتيجية طويلة الأمد التي تتبعها إسرائيل لتقويض القدرات العملياتية لحزب الله قبل إعلان الحرب الشاملة.
وأظهرت هذه الإستراتيجية، التي امتدت لأكثر من عقد من الزمان، التخطيط المتعمد وتنفيذ عمليات التخريب لتعطيل هيكل قيادة حزب الله وشبكات اتصالاته، من دس المتفجرات في أجهزة اتصالات ICOM قبل نحو عشر سنوات، إلى إطلاق عملية التخريب المعقدة لـ “الموساد” في عام 2022، وهذه الإجراءات تعكس استعداداً أوسع لخوض حرب استباقية.
إسرائيل، التي تدرك أن مثل هذا التخريب قد يؤدي إلى انتقام فوري، يبدو أنها احتسبت هذه التحركات كجزء من إطار إستراتيجي أكبر، إلا أن مذكّرة توجيهية تم تداولها داخل حزب الله قبل أيام قليلة من هجوم التخريب على أجهزة النداء (البيجرز) ساعدت في تقليل احتمالات الهزيمة الكاملة.
وقد نبّهت الوثيقة العملاء إلى نقاط الضعف في سرية أجهزة الاتصال، ما سمح للحزب بتجنب الخسائر الكارثية، وهذا يسلّط الضوء على سوء تقدير من جانب الاستخبارات الإسرائيلية، التي أهدرت فرصة لتحقيق نصر حاسم بسبب تفعيل عملية التخريب في وقت متأخر.
وفي حال تنفيذ الهجوم في بداية الأعمال العدائية، كان من الممكن أن تتقدم دبابات “ميركافا” الإسرائيلية لتحتل ليس فقط جنوب نهر الليطاني، بل ربما تصل إلى ضواحي بيروت، ما كان سيغير مسار الصراع بشكل كبير.
بالإضافة إلى ذلك، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مصادر استخباراتية من وحدة الاستخبارات 8200 الإسرائيلية أن أحد فنيي حزب الله شك في البطاريات الموجودة في أجهزة الاتصال اللاسلكية في أواخر عام 2023، كما أشار التقرير إلى أن حزب الله أرسل بعض أجهزة النداء إلى إيران للفحص التقني في أيلول 2024، ولكن هذه الادعاءات لا تصمد أمام الواقع لعدة أسباب.
أولاً، يُعرف حزب الله بقدراته التقنية المتقدمة، بما في ذلك تصنيع الطائرات من دون طيار والصواريخ والمعدات المتطورة، كما يستخدم الحزب فريقاً من المهندسين لتقييم الأجهزة الإلكترونية داخلياً، وبالتالي، كان من غير الضروري إرسال أجهزة النداء إلى إيران.
ثانياً، إذا كان الحزب يشتبه في تعرض أجهزة النداء للخطر، لكان قد تصرف فوراً لاستدعاء جميع الأجهزة وتحييدها، إلا أن حقيقة أن الأجهزة ظلت قيد الاستخدام وانفجرت في أيدي 3500 مسلح ومدني تشير إلى أن الحزب لم يعتبرها تهديداً.
لكن السؤال يبقى: لماذا نصح “الموساد” رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتفجير أجهزة النداء المخرّبة في 17 أيلول، قبل أسبوعين من شن إسرائيل حربها الشاملة على لبنان؟ حيث أثار توقيت العملية تساؤلات حول الحسابات الإستراتيجية لإسرائيل وما إذا كانت مدفوعة بمخاوف استخباراتية أو رغبة في الحفاظ على عنصر المفاجأة.
في 11 أيلول، أصدرت “وحدة الاستخبارات الوقائية” التابعة لحزب الله توجيهاً للأعضاء يحثهم على تجنب إرسال مواقع دقيقة للاجتماعات أو مشاركة تفاصيل تشغيلية عبر أجهزة النداء. إلا أن هذه المذكرة لم تثر أي شكوك حول التخريب المادي للأجهزة.
بغياب استدعاء جماعي أو فحص مادي لأجهزة النداء، فإن الادعاء بأن حزب الله كان يشتبه في وجود اختراق يفتقد للمصداقية. وكانت الأجهزة، التي لم يتم التخريب فيها، ما زالت مستخدمة بشكل طبيعي.
التوقيت والمقصد من العملية كان حاسماً، لم يكن تفجير أجهزة الاتصال المفخَّخة في 17 و18 أيلول صدفة، بل كان جزءاً من إستراتيجية إسرائيلية مدروسة لإضعاف حزب الله في انتظار أهداف عسكرية أوسع.
الهدف كان تعظيم التأثير النفسي والعملياتي، وزرع الارتباك في صفوف الحزب قبل الهجوم البري الإسرائيلي، ومع ذلك، كانت هذه العملية بداية سلسلة من الأحداث التي سمحت لحزب الله بتخفيف الأضرار وإعادة تنظيم صفوفه.
الهجوم الإرهابي في 17 أيلول أدى إلى إصابة العديد من العناصر والمدنيين، ما استدعى نقل المصابين إلى المستشفيات في سوريا وإيران. وبفضل التنظيم الكفء لحزب الله، استطاع نقل عشرات الجرحى بشكل فعال. كما تم تعزيز وحدات الصواريخ في وقت مبكر لتكون في حالة تأهب قصوى لملاقاة التهديدات الإسرائيلية.
من جهة أخرى، لو تم تأجيل التفجير إلى ما بعد بداية الهجوم البري، كان بإمكانه أن يتسبب في شلل كبير لقيادة حزب الله وإعاقة عملياته بشكل كبير، ما كان سيمنح إسرائيل فرصة للانتصار السريع والمباشر.
القرار بتفجير أجهزة النداء في وقت مبكر أعطى حزب الله وقتاً ثميناً لإعادة تنظيم صفوفه، ما قلل من تأثير الهجوم التخريبي، وهذا يبرز أهمية التوقيت في الحروب الحديثة ويعكس التحديات التي تواجهها العمليات الاستخباراتية.
الخلاصة، إن إستراتيجية إسرائيل ضد حزب الله على مدار عقد من الزمان تظهر براعة استراتيجية، ولكنها تكشف أيضاً عن تعقيدات وتحديات الحرب غير المتكافئة في مشهد جيوسياسي سريع التغير.