يوم طلب حافظ الأسد من عرفات تصفية رشيد كرامي
كتب سامر زريق في نداء الوطن : أعاد سقوط بشار الأسد “بعث” السجل الدموي للنظام الذي أسسه والده واكتَوَت من خلاله سوريا، شعباً وأرضاً وفكراً، بنار تناثرت حِمَمُها القاتلة على لبنان وفلسطين والأردن والعراق، ولا سيّما مع المشاهد المروّعة التي خرجت من سجن “صيدنايا” وغيره. ومعها استرجعت الذاكرة الجمعية اللبنانية مرارة اغتيالات زعماء وعقول نيّرة.
من بينها اغتيال رئيس الحكومة رشيد كرامي، والذي كان مادة لنقاشات، كنت شاهداً على واحد منها بين مجموعة شبان، استُشْهد فيه بما رواه دبلوماسي فلسطيني خلال حلقة تلفزيونية، عن طلب حافظ الأسد من زعيم “منظمة التحرير” ياسر عرفات تصفية كرامي، من أجل إقامة الحجّة على شاب ينتمي إلى “تيار الكرامة”، لكنه رفض الأمر جملة وتفصيلاً، في الوقت الذي كان يحتفل فيه بخلاص سوريا والعالم بأسره من طاغية دمشق.
كانت هي المرة الأولى التي أسمع فيها بهذه الحكاية، فرحت أقلّب في محرك “غوغل” للتأكد ممّا ذُكر. فعثرت على سلسلة حلقات، ضمن برناج “مراجعات” على قناة “الحوار” اللندنية، لصاحبها تميم البرغوثي الداعم لـ “حماس”، استضافت فيها ربحي حلّوم، وهو سياسي ودبلوماسي فلسطيني، كان مستشاراً لأبو عمّار في فترة من الفترات، ونائب رئيس الدائرة السياسية، وسفيراً في عدة دول.
هذه الحلقات التي عرضت منذ 7 سنوات، ورغم ما فيها من أسرار مثيرة، إلا أن عدد مشاهديها بالكاد ينوف على 6 آلاف. في الحلقة (3)، يتحدث ربحي حلّوم، والذي عاد وانفصل عن حركة “فتح” بسبب معارضته لـ “اتفاق أوسلو”، ولا يزال معارضاً للسلطة الفلسطينية، وخصوصاً رئيسها محمود عباس (أبو مازن)، عن واقعة شديدة الأهمية كان شاهداً عليها.
لائحة الموت
تلك الواقعة حصلت خلال لقاء استضاف فيه حافظ الأسد مطلع حزيران 1976، وفداً مشتركاً من “منظمة التحرير الفلسطينية” و”الحركة الوطنية اللبنانية”، برئاسة ياسر عرفات، بينهم جورج حاوي ومحسن إبراهيم، وتوفيق سلطان الذي أوفده زعيم “الحركة الوطنية” كمال جنبلاط كممثل عنه بسبب موقفه من الأسد، وحضرها وزير الخارجية السورية آنذاك عبد الحليم خدام، وبعض القيادات السياسية والعسكرية، بينها غازي كنعان.
يبين حلّوم أن اللقاء حصل غداة شهر تقريباً على اجتماعات الرئيس السوري الشهيرة بوزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر، والتي أسست لسلام بين دمشق وتل أبيب غير معلن، أخلص له آل الأسد حتى زوال عرشهم. استمر الاجتماع لساعتين حافلتين بالنقاش حول التطورات في الساحة اللبنانية، وتخلله بعض الحدة بسبب دعم النظام السوري للقوى المسيحية في لبنان. في نهاية الاجتماع، استأذن الأسد الحاضرين للانفراد بعرفات في غرفة جانبية، في لقاء لم يدم سوى 20 دقيقة، خرج بعدها أبو عمار شاحب الوجه وشفتاه ترتعشان، وهي علامة انفعال يدركها الحاضرون من رفاقه، ومنهم حلّوم.
في طريق العودة، عاد الوفد اللبناني أدراجه، فيما عرّج الوفد الفلسطيني على “مقرّه الدمشقي” لأخذ قسط من الراحة. انطلق الرّكْب بعدها نحو بيروت، واستقل عرفات سيارة حلّوم ومعه سائقه الخاص، وأبرز مساعديه أبو جهاد الوزير، الذي ألحّ في السؤال لمعرفة ماذا دار في الاجتماع. لكن أبو عمّار امتنع عن الإجابة، حتى وصلوا “ضهر البيدر”، حيث أخرج من جيبه ورقة مررها إلى أبو جهاد. يقول حلّوم الذي كان بجواره أنها تضم قائمة من 37 اسماً، يتصدّرهم كمال جنبلاط. ورداً على استفسار أبو جهاد، قال عرفات إن “أبو سليمان (حافظ الأسد) يريد منا أن نصفّي هؤلاء مقابل أن يمنح “فتح” مفتاح المنطقة”، ممّا أحدث صدمة هائلة لدى السامعين، لم تكن أقل من صدمة أبو عمّار نفسه.
حسب حلّوم، تضم اللائحة زعامات بارزة، وساسة يمثلون مختلف ألوان الطيف اللبناني، من يساريّين ويمينيّين، كتائبيّين وشيوعيّين ومستقلّين، مثل كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إدّه، وبينهم من هو حليف للأسد، مثل محمود عبد الخالق وإنعام رعد “الحزب القومي السوري”، جورج حاوي، تقي الدين الصلح، والمفاجأة الثانية أن القائمة تضمنت اسم الرئيس رشيد كرامي بالذات. بالإضافة لشخصيات غير لبنانية، مثل جورج حبش، وعبد الوهاب الكيالي، وهو مفكر فلسطيني ينتمي إلى حزب “البعث” العراقي.
لسنا عصابة قَتَلَة
بعد مشاورات سريعة، استقرّ الرأي على التوجه صوب “المختارة” لإبلاغ سيدها. حكى عرفات لجنبلاط ما دار في اجتماعه مع الأسد، وناوله الورقة، فراح ينظر إليها بهدوئه المعروف، ثم قال “ألم أقل لكم منذ جئتم إلى لبنان بأن هذا (حافظ الأسد) هو تيمورلنك، لكنكم لم تصدقوني ووضعتم كل بيضكم في سلّته، أدركتم الآن؟”
وأردف “يريد أن يقتل رشيد كرامي، لماذا؟ لأنه يشكل ضمانة في لبنان. يريد السيطرة على لبنان والمنطقة، لديه مشروع ورثه عن أبيه”، حيث يبيّن حلّوم بأن جنبلاط “كان يعرف تاريخ أسرة الأسد، وأن سليمان، والد حافظ، كان يحتمي بالفرنسيّين إبّان الانتداب، وهم من نصّبوه شيخاً على جماعته”. تساءل جنبلاط “ماذا ستفعلون؟”
فردّ عرفات “الموضوع ليس بحاجة لنقاش، “فتح” لن تتحول إلى عصابة، ولن تسلك هذا الطريق”. فطلب جنبلاط أن يتخذوا القرار المناسب وفق ما تمليه مصلحة القضية الفلسطينية. ومن المختارة انتقل أبو عمّار ورفاقه إلى “الفاكهاني”، لعقد اجتماع للجنة المركزية، حيث جرى الاتفاق على تكليف العميد سعد صايل “أبو الوليد”، وصلاح خلف “أبو إيّاد”، إبلاغ الأسد بالرد الذي ينتظره، بعد يومين. وكان عبارة عن سطرين:
“كان بودّ اللجنة المركزية لو كانت أسماء المطلوب تصفيتهم جسدياً قادة أو عسكريين إسرائيليين لحاولت تنفيذ ذلك بكل ما لديها من إمكانيات، أما أن تتحول إلى عصابة قتلة، فهو أمر تحرمه ثوابتنا الوطنية الفلسطينية”. تسلّم الأسد الرد في 4 حزيران 1976. وفي صباح اليوم التالي بدأت قواته قصف مخيم “تل الزعتر” لتأديب عرفات وليّ ذراعه، والبقية معروفة.
“مخلب” الأسد
كان حافظ الأسد يريد استخدام “منظمة التحرير” كـ “مخلب” يغرزه في عنق لبنان، وطناً ودولة وشعباً، للتخلّص دفعة واحدة من كل زعاماته وساسته البارزين، وإحداث فوضى من الدماء والهويات المتناحرة، بما يضمن له إحكام السيطرة على القرار اللبناني. ثم يعود بعدها ويتخلّص من حركة “فتح” نفسها، وبغطاء عربي ودولي كان سيحصل عليه، لعقابها على الآثام التي ارتكبتها، والتي كان سيفضحها بنفسه. فتخلو أمامه الساحة للسيطرة أيضاً على القرار الفلسطيني، والمتاجرة بقضيتها.
وهنا لا مناص من التذكير بأن الأسد نجح في ما فشلت فيه إسرائيل نفسها، ألا وهو تقسيم حركة “فتح” إلى شراذم راح يوظفها لخلق الفتن وإثارة الاقتتال الداخلي. وحافظ الأسد الذي قبض على السلطة في بلده، عبر بيوعات وانقلابات سفك فيها أنهاراً من الدماء، وخيانات لرفاق وأصدقاء سال دمهم في هذه الأنهار، منهم شريكه في الانقلاب، وزير الدفاع لبضعة أشهر، اللواء محمد عمران، الذي اغتاله في مدينة طرابلس بالذات عام 1972، لم يكن ليبالي بسفك المزيد منها لتحقيق حلمه بحكم ما كان يعرف بـ “بلاد الشام”.
وبالتالي، لم يكن رشيد كرامي بعزيز عليه، ولا سيّما أن العلاقة بينهما كانت معقدة، كحال علاقة الأسد المتقلبة مع الخصوم والحلفاء وأرباب الميليشيات والشوارع الذين حولهم إلى نخب سياسية. فـ “الرشيد” رغم تحالفه السياسي “العروبي” مع سوريا، إلا أنه ما كان أداة طيّعة في يد نظام الأسد، على ما حاول خصومه تصويره، بل مناوراً متعباً، انطلاقاً من كونه رجل دولة يمقت الميليشيات والحرب.
لذا، سعى إلى تحقيق المصالحة الوطنية حتى الرمق الأخير من حياته، فخاض جولات من المفاوضات مع الرئيس كميل شمعون، خلُصَت إلى ما عرف وقتها بورقة “البنود العشرة” لإنهاء الأزمة اللبنانية، والتي يعتبرها البعض أنها مهّدت لـ “اتفاق الطائف”. بيد أنّ “الإخوة في الشام” كانوا منزعجين من رغبته بإعادة توثيق علاقته مع شمعون، على ما يذكر الكاتب جورج فرشخ في كتابه “رشيد كرامي” الذي يؤرخ فيه لمسيرته.
العلاقات المُلتبسة
قبل أيام قليلة، تعرض النائب فيصل كرامي لهجوم “سوشيالي” على خلفية كلامه عن محاربة نظام الأسد، الأب والابن، لوالده الرئيس الراحل عمر كرامي. بيد أنّ ما قاله لا يندرج في خانة “التكويع” بعد خلع نظام “البعث” وفق الموضة السائدة، بل يمثل قناعة عند الكرامييّن، عبروا عنها في مجالسهم إبّان الاحتلال السوري، ثم جهروا بها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ومن أمثلة التضييق السوري، توزير نجيب ميقاتي عام 1998، في أول حكومة لـ “النظام الأمني المشترك” في عهد الرئيس إميل لحود الذي يسبح في حب الأسدين ويُسبّح بحمدهما، ودعمه ليشكل حالة سياسية هدفها تحجيم النفوذ الكراميّ في عقر داره.
لكن هذه القناعة لا تنسحب على عملية اغتيال الرئيس رشيد كرامي، والتي بُنيت عليها “عصبية سياسية” صار من شبه الاستحالة الرجوع عنها، لعوامل كثيرة. ومع ذلك، من المفيد التذكير ببعض العوامل التي تبرز البصمات الأسدية. في آب 1981، تعرض مكتب كرامي في طرابلس للتفجير. وبعدما أقصاه حافظ الأسد عن “الاتفاق الثلاثي” في كانون الأول 1985، أسوة بالسنة جميعاً، فإنه راح يُصفّي أبرز رموزهم. فاغتال نائب رئيس “المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى” العلامة صبحي الصالح 7 تشرين الأول 1986، في “ساقية الجنزير” ببيروت التي كان من المعروف من يبسط حكمه الميليشياوي عليها آنذاك.
أواخر العام نفسه، ألقيت قنبلة على السراي الحكومي القديم بـ “الصنائع”، استهدفت مكتب الرئيس كرامي بالذات، بينما كان يعقد اجتماعات لتسيير دفّة العمل الحكومي. تلاه تعرض منزله في “تلة الخياط” لقذيفة صاروخية بينما كان يتناول العشاء مع شقيقته وزوجها الوزير السابق مالك سلام، أثبتت التحقيقات أن مصدر الإطلاق كان من ربوة مقابل المنزل تحت قبضة الجيش السوري. هذه الرسائل الصاروخية، التي سبق أن طالت قصر الرئيس صائب سلام، ففهم الرسالة وخرج إلى المنفى القسري، ومثله فعل الرئيس تقي الدين الصلح، طالت أيضاً على عهد الأسد الابن الرئيس رفيق الحريري، حينما استهدف “تلفزيون المستقبل” بصاروخين في حزيران 2003، فكانت مقدّمة لاغتياله.
تصفية السنّة
بين 1983 – 1987 شنّ حافظ الأسد حربين مدمرتين لتركيع مدينة “الرشيد” وطرد ياسر عرفات من طرابلس ولبنان “إلى الأبد”، فأبدى كرامي امتعاضه من طريقة إخراج عرفات “المذلة”. لكنه ردّ بالتفاهم مع رئيس البرلمان حسين الحسيني على تمرير إلغاء “اتفاق القاهرة”، لمنع دمشق من بيع هذه الورقة، عبر ضمه إلى القانون الصادر عن البرلمان لإلغاء “اتفاقية 17 أيار” مع إسرائيل، وذلك قبل أيام فقط من اغتياله في 1 حزيران 1987، بعبوة مماثلة لتلك التي أدت لاستشهاد سمير قصير وجورج حاوي، ونجّا الله منها مي شدياق.
بعد شهرين، في 2 آب، اغتيل الدكتور محمد شقير، مستشار رئيس الجمهورية أمين الجميل. في 16 أيار 1989، اغتيل مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، بعدما وصلته رسائل صاروخية مشابهة، طالت مكتبه بدار الإفتاء ومنزله، لإفهامه بضرورة تنفيذ ما طلبه حافظ الأسد منه في ختام آخر لقاء جمعهما “بيسوى يا سماحة المفتي قبل ما تعمل أي خطوة تخبّرنا”، حسبما روى نجله سعد الدين خالد، والذي حكى أيضاً عن ذهول والده حينما دخل منزل الرئيس رشيد كرامي في طرابلس، للمشاركة في تشييعه، فوجد نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام يؤنّب القادة المسلمين لتعجّلهم في اختيار الرئيس سليم الحص رئيساً للحكومة لأن “الفراغ يناسبنا”. وفي 21 أيلول من العام نفسه، اغتيل النائب البقاعي ناظم القادري.
ذاك الفراغ الذي تحدث عنه خدام، المعني به فوضى الدم والهويات، كان الهدف الذي أراد حافظ الأسد تحقيقه منذ عام 1976، عبر “لائحة الموت” التي قدمها لعرفات، وحينما أبى الأخير، فإنه راح يصفي غالبيتها، عبر جيشه واستخباراته أو عبر زبانيّته في لبنان، بعدما أضاف عليها أسماء برزت في السنوات اللاحقة كعقبة كأداء عرقلت تحقيق هدفه.
في ظل المنعطف التاريخي الذي تمر به المنطقة مع اندحار محور ملالي إيران وسقوط نظام “البعث”، يحدونا الأمل بأن يتوّج بخروج أرشيف الاستخبارات السورية إلى دائرة الضوء، لإماطة اللثام بالوثائق عمّا خفي من السجل الإجرامي المذهل للآلة الأسدية، والذي لن تبرأ دول المنطقة من آثامه “النازية”.