انكسار “جبهة خامنئي” بين مسجد ومرقدين
كتب سامر رزيق في نداء الوطن: تصدر “المسجد الأموي” وساحته الاحتفالات الشعبية بإسقاط نظام بشار الأسد، في رمزية لها أبعاد دينية وتاريخية وثقافية تتصل بالصراع بين السنة والشيعة، وإرثه المثقل بالندوب، والذي اختزله المرشد الإيراني علي خامنئي بالجبهتين “الحسينية” و”اليزيدية”، في تغريدة شهيرة كانت بقصد التعبئة الأيديولوجية.
وبدرجة أقل “مقام السيدة زينب”، الذي جرى تسليط الأضواء عليه بفعل الدعاية السلبية لـ “حزب الله” ومحوره، والتي تنضح بمشاعر الهزيمة لمشروع يعتنق أيديولوجيا شديدة التطرف، ترتكز على “الشعوبية” الإيرانية، وتتخذ من الخلاف التاريخي بين السنة والشيعة ستاراً للعمل على إذكاء روح الكراهية بينهما، من أجل إعادة المجد للإمبراطورية الزائلة.
وإذا كان إبراز “المسجد الأموي” يظهر كردة فعل سنية على تعمد الرهط الإيراني ممارسة طقوس شيعية في صحنه، تندرج ضمن إطار الانقسام التاريخي، فإن “الشعوبية” الإيرانية تتجلى بوضوح في موضع آخر، في ضريح ومسجد “خالد بن الوليد” في حي “الخالدية” بحمص القديمة.
فكما فعل الجنرال الفرنسي غورو، حينما ذهب إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي وقال: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، أعاد “حزب الله صياغة” مشهدية الاحتلال نفسها، إنما بشكل أكثر فجاجة، حيث تعمّدت عناصره تدمير ضريح “خالد بن الوليد”، وكتابة عبارات مغرقة في الطائفية على جدرانه، بعد سقوط المدينة غداة حصار دام 18 شهراً، كانت حافلة بالترويج المنظم لتهديدات بنبش الضريح.
وهذه الحادثة بالذات هي التي دفعت بـ “هيئة تحرير الشام” لإقامة صلاة حاشدة في مسجد “خالد بن الوليد”، الذي يحتضن ضريحه، إثر سقوط حمص، ودفعت أيضاً بالكثير من السوريين واللبنانيين إلى زيارة الضريح للاحتفال ليس بإسقاط الأسد، إنما بـ “خلع” المشروع الإيراني. تكمن المفارقة في أن خالد بن الوليد ليس من الشخصيات الإسلامية التي يدور حولها الانقسام السني – الشيعي. فهو لم يكن رجل سياسة، ولا كان له دور في عملية صناعة القرار أو التأثير به، لا في عهد النبي ولا بعد وفاته، بل كان قائداً عسكرياً فذاً.
وحتى حينما عزله عمر بن الخطاب عن قيادة الجيش، آثر الانسحاب إلى بيته، وتوفي بهدوء في عهد عمر، أي قبل سنوات من حدوث ما يعرف بـ “الفتنة الكبرى”، والتي ظهر على أثرها المذهب الشيعي. ومع ذلك، فإنه ذُكر بشكل متباين ويغلب عليه طابع الافتعال في بعض الكتب المتأخرة التي يستند إليها الإرث الشيعي، لأسباب لا علاقة لها بالفتنة إياها، إنما لدوره الحاسم في الانتصارات العسكرية التي حققتها جيوش المسلمين العرب بقيادته على جيوش الإمبراطورية الفارسية، والتي مهدت لزوالها بعد أن كانت قوة عالمية.
وهنا بالضبط تبرز “الشعوبية”، وهي في الأصل حركة اجتماعية قومية ظهرت في أواخر العصر الأموي كردّة فعل من القوميات غير العربية على تغليب العنصر العربي. وتحوّلت في العصر العباسي من حركة ترفع لواء تسوية الحقوق بين العجم والعرب، إلى اتجاه مناوئ للعروبة، وانتشرت بقوة في أوساط الفرس بسبب الشعور السائد لديهم بالاستعلاء على العرب لأنهم كانوا أكثر منهم مدنية.
في “مقام السيدة زينب” نفسه، يوجد ضريح منسي، يقبع فيه المفكر الإيراني وملهم ثورتها الإسلامية، الدكتور علي شريعتي، والذي كرس جهده لنقد التشيّع الراديكالي الذي فرضته الدولة الصفوية، والتي تعد الجمهورية التي أسسها الخميني امتداداً لها، والعودة إلى التشيّع العلوي، نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب.
يُبيّن شريعتي في كتابه “التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي” أن الدولة الصفوية التي أنشأها إسماعيل الصفوي، وهو بالمناسبة كان شيخ طريقة صوفية سنية تحوّل إلى الشيعية لأسباب سياسية محضة، وكنّيت بـ “الصفوية” نسبة إلى جده الشيخ السني صفي الدين الأردبيلي، مزجت “الشعوبية” بالمذهب الشيعي والقومية الفارسية، لعزل الإيرانيين عن الأمة الإسلامية. فنجحت في إنتاج “شعوبية شيعية” حوّلتها إلى “مذهب عنصري وشخصيات فاشية تؤمن بأفضلية التراب والدم الإيراني، والفارسي منه على وجه الخصوص”.
ويعتبر شريعتي أن “الإكسير الصفوي المشؤوم استطاع أن يصنع من الدم ترياقاً، ومن ثقافة الاستشهاد ترنيمة نوم”، في توصيف دقيق للغاية لـ “سفر برلك” شيعي لا ينتهي، يقتات من دمائهم.
وتوصيف “سفر برلك” استعارة من البيان – الوثيقة الذي طرحته مجموعة نخب شيعية في مبادرة بعنوان “نحو الإنقاذ”، للخلاص من إسار النسخة الخمينية وإفرازاتها “الحسينية” المُخاتلة، والتي أقصت حتى الشيعة العرب ومدرستهم التاريخية في “النجف” الأشرف، ولا سيما بعدما طال “الشعوبية” الإيرانية انكسار تاريخي، خصوصاً في سوريا، حتى صار رتقها صعباً.