فرار الأسد ومسؤوليّة ميقاتي
كتب مروان الأمير غي “نداء الوطن” : تحت سماء دمشق الملبّدة برائحة التاريخ والدم، سقط عنوان الطغيان. جاء الخبر كرجفةٍ تسري في أوصال وطنٍ عاش عقوداً تحت قبضة الخوف. بشار الأسد فرّ.
تسلّل الطاغية تحت جنحِ ظلامٍ صنعه استبداده، حاملاً معه أوزار سنينٍ مثقلة بآهات المظلومين وأنين أرضٍ لفظته. كان فراره أشبه بزفرة مدينةٍ أنهكها القهر.
غادر كما يغادر الظل عندما يسطع النور. فرّ من دون أن يُخطاب الشعب السوري. فالظالم لا يملك جرأة النظر في عيون المظلومين. عيونهم مرآةٌ تفضح وحشيته.
مع رحيله، تنفّس هواء دمشق بحرّية لأول مرّة منذ نصف قرن، كما تنفّست بيروت حرّيتها في نيسان 2005. عادت الساحات والأزقّة التي كانت تضيق بعيون عسَس الأمن والمخابرات الباردة، لتتسع لروح الناس الدافئة، ولتصدح فرحاً بأصواتٍ كانت مخنوقة.
بفرار الطاغية، طُويت صفحة حاكم نسج للناس أسطورة خلوده واستمراريته فوق معايير الزمن. لعقودٍ طويلة، خلق كل مواطن “مُخبراً” خاصاً به يقبع في أعماق رأسه. يراقب أحلامه وأفكاره ويقمعها. كان الحلم جريمةً والفكرة تهمة عقوبتها عمرٌ بأكمله في سجونٍ هي الأكثر وحشية وإجراماً.
سقوط بشار ليس مجرد انهيار حكم استبدادي قمَعَ شعبه، بل أيضاً إسدال للستار على دورِ جهة رئيسية في زعزعة استقرار المنطقة برمتها.
تحت عباءة “العروبة” احتلّ لبنان وعمل بكلّ ما أوتي من قمع وقتل وتسلّط على توسيع جغرافيا استبداده. لكن عشق بيروت للحرّية كان أقوى. انتفضت عليه. كسرته وطردته.
وباسم “المقاومة” نشر الموت والإرهاب في دول الجوار، لا سيّما لبنان والعراق. فكان مصنعاً للفوضى والخراب. يزرع بذور الإرهاب، يخصّب أفكاره، ويُعدّ عناصره تدريباً وتفخيخاً، ومن ثم يصدّر الموت على خط دمشق – بيروت ودمشق – بغداد. وما الهدوء لعقودٍ على جبهة الجولان، إلّا شاهدٌ على تفرّغه بشكلٍ كاملٍ لقمع وترهيب شعبه، ولتعميم النار والدم على شعوب المنطقة.
في بيروت كما في دمشق، ارتفع ضجيج الفرح برحيل أعتى الأنظمة بطشاً ووحشية، لكن هذا الضجيج يترافق مع همسٍ ممزوجٍ بالحذر إزاء ما سيحمله المستقبل.
في دمشق، إنّ سقوط الأسد ليس سوى خطوة أولى على طريقٍ طويلٍ ودقيق مليء بالتحديات. يبدأ بصياغة دستور جديد يحفظ حقوق ودور جميع الأطياف الطائفية والعرقية. مسار سيضع السوريين لأول مرّة أمام امتحان ممارسة مفاهيم مثل كيفية الحكم وتداول السلطة والمحاسبة وإدارة التنوّع والاختلاف. كلّها مصطلحات غابت لعقودٍ تحت قبضة الاستبداد عن القاموس السياسي السوري، بل عن الحياة السياسية التي لم تُتح لها فرصة الوجود أصلاً.
أمّا في بيروت، فيُنظر إلى سقوط الأسد كزلزال سياسي لا يقل وقعاً عن زلزال اغتيال نصرالله. إذ أصاب “حزب الله” والنفوذ الإيراني في مَقتَل، لا سيّما لجهة قطع طريق طهران – بيروت، الذي يشكّل الرئة التي يتنفّس منها “حزب الله”.
هذا الأمر يشكّل عاملاً إضافياً يُحتّم على الرئيس ميقاتي تحمّل مسؤولياته لجهة تأمين غطاء سياسي لا لبس فيه للجيش اللبناني، ليتسنى له تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بشكل كامل. أي تهاون أو مراوغة في هذا السياق، مراعاةً لـ”حزب الله”، سيضع الحكومة في خانة الشريكة لـ”حزب الله” في تعريض البلد مجدّداً للخطر.
بسقوط الأسد زال كابوسٌ جاثمٌ على صدر الشعبين السوري واللبناني. اليوم يُكتب فصلٌ جديد من حكاية شعبين قاوما الظلام، وانتصرا للنور.