تطورات ربما كانت واعدة
كتب وائل خير في ” نداء الوطن ” :
نكبة العرب الكبرى ليست فلسطين. إنها، من دون شك، الديكتاتوريات العسكرية. لم تكن سوريا فاتحة المآسي إذ سبقها في الثلاثينات انقلاب بكر صدقي في العراق الذي خبا بعد أشهر ليعود ذاك الوباء إلى الظهور منذ عام 1949 في سوريا بانقلاب حسني الزعيم وينتشر من بعدها في عدد من بلاد العرب. الديكتاتورية في سوريا استأثرت بأمر وشاركت بأمور. ما اختصت به دون سواها هو خلقها سلالة من الحكم السلطوي استمرت لما يقرب من 54 سنة، أي ما يزيد على نصف عمر الجمهورية السورية إذ إن فترة الحكم الديمقراطي وتناقل السلطة عبر انتخابات تتسم بمقدار من الحرية، ما زادا عن الـ27 سنة واقتصر ما تبقى من السجل السوري على حكام عسكريين لتستقر بسلالة عسكرية تبوأت أمور البلاد. سلالة عسكرية استمرت في الحكم طوال 54 سنة بلغ عدد ضحاياها الملايين حسب إحصاءات موضع تداول. يضاف إلى الضحايا البشرية دمار طال كل المدن، كان أوّله تدمير القسم المركزي لمدينة حماه وجواره عام 1974، إلى حانب دمار أصاب كل مدينة أو قرية خرجت عن طاعة السلطة المركزية، أو خيّل لهذه السلطة خروجها. ذلك إلى جانب ملايين السوريين من نازحين في الداخل ولاجئين إلى دول الخارج.
أوضاع السجون في زمن الأسدين, وأسباب الاحتجاز ومدته، والتعذيب، والقتل تحت التعذيب، والموت بسبب الإهمال و مجاعة السجناء، وفقدان الحد الأدنى من الرعاية الطبية، كلها فاقت وبأشواط، ما أنزلته بشعوبها الأنظمة الفاشية والشيوعية في القرن العشرين.
في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 غاب الرئيس بشار الأسد عن الأنظار وانتشرت شائعات بمقتله لتستقر على أنه التحق بعائلته في موسكو إثر منح السلطات الروسية، له ولعائلته، حق اللجوء السياسي “لأسباب إنسانية”.
سبق هذا الحدث ومهّد له انهيار سريع ومذهل لقوى النظام المسلحة. انتقل التحرك العسكري لقوات “هيئة فتح الشام” قبل حوالى أسبوعين من مقرها في إدلب باتجاه حلب ثاني مدن سوريا التي سقطت من دون مقاومة. تسارعت الأحداث من حصار لحماه فحمص ثم سقوط العاصمة. سرعان ما دخلها منتصراً أبو محمد الجولاني، رئيس “الهيئة” بعدما أسقط كنيته الإسلامية الأصولية والعودة لاسمه الأصلي، أحمد الشرع، وخلع اللباس الإسلامي الأصولي التقليدي وارتدى زياً عسكرياً حديثاً وشذّب لحيته. اعتلى محمد الشرع منبر المسجد الأموي ليعلن تقلده السلطة متعهداً تمسكه بحقوق المكونات ذات الانتماءات الدينية والعرقية والاثنية المختلفة. كما غاب عن خطبته أي تهديد أو وعيد لأي خصم كان. على العكس بدا، كما في تصريحاته اللاحقة على مسامع الإعلام العالمي والعربي، مسالماً لا يضمر الشر لأحد، من سلّم سلاحه سلم ومن فرّ لا ملاحقة له. إلا أن خطبته في الجامع الأموي لم تخل مما يوجب التوقف عنده. تعهّد في خطبته “نشر أحكام الله على أرضه”، حيث لا سبيل إلى إنكار أمرين: الالتزام بما شرّع الله للإنسان وبه صلاح الدنيا وجزاء الآخرة. كما يفيد ذاك القول التزام محمد الشرع بـ”دار الاسلام”.
الوصول إلى الحكم شيء والاستمرار به أمر آخر. من الممكن لفئة استغلت وضعاً إقليمياً ودولياً أن تنجح في اعتلاء السلطة. غير أن الاستقرار بها أمر أكثر تعقيداً ومتعدد الأبعاد. هل من السهل لفئة هامشية سيطرت لسنوات على مدينة ريفية واختلفت الأقوال في صلاح حكمها، أن تنجح في مد نفوذها على مدن كبرى ما كانت يوماً مغلقة كدمشق وحلب بل كانت عبر التاريخ ملتقى حضارات وثقافات ولها اتصالات عميقة بالعالم الخارجي؟
ثم ما حظوظ نجاح هذه المجموعة الأصولية في تسويق رؤيتها لدى أديان وطوائف وقوميات وتراثات سياسية متنوعة وكثيراً ما تكون متضاربة، تحمل ذكريات اضطهاد قرون من تجاور ويتربص كل منها الآخر؟ ثم ماذا عن الدعم الخارجي من مصادر مختلفة وربما معادية، لهذه المكونات؟
المستقبل كفيل بالإجابة. حسبنا في هذا العرض السريع لأحداث قريبة ومتسارعة الإشارة إلى ما هو مسلّم به. أحداث سوريا تحتم الوقوف عندها لفهم مندرجاتها واستشراف ما قد ينتج عنها داخل سوريا وخارجها في أرجاء شرقي المتوسط.
من أوضح نتائج الوضع السوري انحسار النفوذ الإيراني بعد ما يزيد على الاربعة عقود. ما كان هذا الحدث التاريخي يسبب أحداث سوريا بل كان نتيجة منطقية لسوء قراءة السلطة في طهران للقوى في الشرق الأوسط ودعمها لأحداث 7 اكتوبر 2023 ومن بعدها زج لبنان في ذاك الأتون عبر”المساندة والمشاغلة” بناء لحسابات أظهرت الأيام خطأ فادحاً في الوقوف على حقيقة قوة إسرائيل وتغلغلها المخابراتي ما أدى إلى استئصال أكبر إنجازات إيران الإقليمية، “حزب الله” في لبنان. وما إن سقط بأس إيران في لبنان حتى تهاوى ما بنته الثورة الإسلامية عبر منطقة الشرق الأوسط ابتداء من سوريا وسقوط نظام الأسد واتعاظ بغداد بالأحداث فآثرت الحيطة واختارت الحياد.
عرف لبنان منذ قيام كيانه الحالي بانعكاس أحداث منطقة الشرق الأوسط عليه لأسباب بديهية على رأسها أن مكوناته، بالتحديد الإسلامية منها، هي امتداد لمراكزها خارج حدوده، وتم تطوير هذه المراكز عبر العقود، واستعمالها لمد نفوذ هذه الدول فيه، بعد انحسار نفوذ إيران. من هي الدولة التي يمكن أن تحل محلها؟ الأرجح أن تكون قطبان سنّيان، في الفترة الأولى تركيا وبعدها السعودية.
لكن ما يحكم هذا النفوذ، امتداده أو تقلصه في سوريا أولاً ومن بعدها لبنان، هو الترتيبات لسوريا ما بعد التبدلات الحالية؟ هل سترتكب سوريا خطأ لبنان بعد حرب 75 – 90 بالعودة إلى نظام مركزي،أم ستعمد إلى نظام فدرالي يرفع الخشية والحذر عن المكونات ذات التاريخ الحافل بالنزاعات، ليستبدله بالاطمئنان إلى مستقبلها بالاستقلال عن الديموغرافيا وتبدلاتها؟
ثم هناك تاثير السياسة العالمية على أوضاع سوريا ومنطقة الشرق الأوسط. لا يصح لأي تحليل أن يسقط حدثاً عالمياً لا شك بانعكاساته على منطقتنا. إنه انتخاب دونالد ترامب لرئاسة أميركا. تميزت الانتخابات الأميركية بأحداث أخالها ذات تاثير كبير على أوضاع الولايات المتحدة والعالم. فنتائج الانتخابات كشفت الغش والخداع الذي وسم وسائل الإعلام والأكاديميا الأميركية التي أوحت أن ترامب ضئيل الحضور الشعبي خلافاً لمنافسته كاملا هاريس، لتأتي النتائج مذهلة باكتساح ترامب للتصويت الشعبي إضافة إلى الأكثرية في مجلسي الشيوخ والممثلين.
هذا الوضع الكاسح لترامب سيستمر، على الأقل، لسنتين حتى إجراء أول انتخابات في عهده. خلال السنتين الأوليين ستكون له السلطة وربما الإرادة للقيام بإجراءات قد لا تتوفر ظروفها لعقود. من الممكن، لكن ليس من المؤكد، أن يقوم ترامب بإجراءات ذات أثر كبير على مستقبل الشرق الأوسط بما فيها سوريا ولبنان. لكن السؤال الذي له حسم الأمر وتقرير مستقبلنا، هل أعددنا وسائل رفع قضيتنا وتعبئة ما أمكن من أصحاب القرار في واشنطن لمساندتنا؟