“القوات” دفعت الثمن الأكبر وخاضت المواجهة الأشرس
كتب شارل جبور في “نداء الوطن”:
دفعت “القوات اللبنانية” الثمن الأكبر في مواجهتها مع النظام السوري، فاغتيل مؤسّسها الرئيس بشير الجميل وآلاف الرفاق في مواجهات عسكرية دفاعاً عن استقلال لبنان وحريته وسيادته، وحلّ تنظيمها واعتقل رئيسها الدكتور سمير جعجع لأنه أسقط الاتفاق الثلاثي، ورفض الانقلاب على الطائف، وحاولوا اغتياله بسبب إصراره على الخط نفسه، أي الخط اللبناني الرافض أن يكون لبنان ملحقاً بنظام الأسد وبالنظام الإيراني لاحقاً.
كانت “القوات اللبنانية” أوّل من استشعر أن الدور السوري انقلب على مقرّرات القمة العربية بإرسال قوات عربية لوقف إطلاق النار في لبنان، فاستفرد بالساحة اللبنانية خلافاً للتوجُّه العربي، وتحقيقاً لمشروعه التوسّعي باحتلال لبنان، وحماية لنظامه، وتجسيداً لعقيدته بأن لبنان هو جزء من سوريا، وترجمة لشعاره “شعب واحد في دولتين” يُحكم من دمشق.
وراحت “القوات” تحارب على خطّين: مواجهة مع المنظمات الفلسطينية، وأخرى مع جيش الأسد، وعندما خرجت هذه المنظمات مع الاجتياح الإسرائيلي وبدأ لبنان يعدّ العدّة لاستعادة سيادته واستقلاله، اغتال النظام السوري الرئيس المنتخب بشير الجميل وانقلب تدريجاً على المعطيات الجديدة محاولاً إنهاء الحرب باتفاق ثلاثي مرجعيته دمشق، فكان الدكتور جعجع له بالمرصاد فأسقط الاتفاق ومعه محاولة وضع اليد على لبنان.
لكن العماد ميشال عون قدّم للأسد هدية “حرب التحرير” التي أسقطت المنطقة الحرّة وأسقطت معها “ستاتيكو” الخطوط الحمراء، فتدخّل المجتمع الدولي لإنهاء الحرب استعداداً للسلام الذي كان يُطبخ وراء الكواليس، ولكن إصرار عون على البقاء في بعبدا فوّت على اللبنانيين فرصة تطبيق “اتفاق الطائف” كما أُقرّ، فاستفاد الأسد من تأخير التنفيذ، واستفاد من بعدها من “مومنتم” اجتياح الرئيس صدام حسين الكويت وانتقال التركيز الدولي من لبنان إلى الخليج، فاستفرد مجدداً بالقرار اللبناني وأحكم سيطرته المطلقة على لبنان.
وقد خُيرّت “القوات اللبنانية” في مطلع تسعينات القرن الماضي بين الخضوع لسقف الأسد، وبين الخروج من الحياة السياسية، فاختار رئيس “القوات” المعتقل لا الرحيل، وهو خيار القلة القليلة التي تقرِّر الاستشهاد في أرض المعركة، ومواصلة النضال على الأرض نفسها التي استشهد فيها الآلاف دفاعاً عن سيادة وحرية الإنسان.
وبدأت مع اعتقال “الحكيم” وحلّ حزب “القوات اللبنانية” مرحلة جديدة عنوانها “النضال السري” كما وثّقها الزميل نجم الهاشم في كتابه “قصة النضال السري 1994-2005″، وهذا النضال بالذات هو الذي أسّس لانتفاضة الاستقلال في العام 2005، لأنه لو سلّمت “القوات” بحكم الأسد للبنان لما ولدت معارضة وطنية، فكانت الخميرة التي كسرت تدريجاً ثلاث حلقات مترابطة: حلقة الحصار على حركة المناضلين في “القوات” الذين عاشوا الاضطهاد والملاحقات والقمع لمنعهم من مواصلة نضالهم، حلقة إبعاد “القوات” عن المسيحيين بتصويرها ظلماً وتشويهاً على غير الحقيقة التي وجدت لأجلها، وحلقة عزلها عن البيئة الوطنية بشيطنتها لدى المسلمين.
ولم يعرف أي فريق في لبنان معاناة القواتيين، واعتقد الأسد أن الحصار المثلّث مع اعتقال جعجع يُعطِّل “القوات” ويُخرجها من وجدان المسيحيين ويُبعدها عن الشركاء في الوطن، ولكن الثبات والإيمان والتراكم فعلت فعلها، فانتقلت العدوى وراحت تتوسّع مستفيدةً من أحداث كبرى بدأت مع خروج الجيش الإسرائيلي وموت حافظ الأسد وبيان المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، مروراً بهجمات 11 أيلول وإسقاط نظامي طالبان وصدام، وصولاً إلى “لقاء النورماندي” مع الرئيسين جورج بوش وجاك شيراك وصدور القرار 1559 وخروج الجيش السوري من لبنان.
ولكن خروج هذا الجيش في 26 نيسان 2005 لم يضع حداً لمآسي اللبنانيين، لأن “حزب الله” ورث عن نظام الأسد مفاتيح إمساكه بمفاصل القرار، فتواصلت المواجهة السياسية فصولاً إلى أن اندلعت حرب الطوفان فأخرجت الحزب من الخدمة العسكرية، وأخرجت بشار من سوريا، فتحرّر الشعب السوري ومعه الشعب اللبناني من نظام احتلّ لبنان وكان ممراً للنظام الإيراني التوسعي، ومع سقوطه تُكتب خاتمة كتاب هذا النظام ويُختم بالشمع الأحمر.
ولا تختصر “القوات اللبنانية” وحدها المواجهة مع نظام الأسد، ولم تكن لـ”القوات” القدرة على ربح المعركة في الضربة القاضية وحدها لولا مواجهات صارمة من مربعات مختلفة، ولكن يسجّل لها أنها أكملت سياسياً ما كانت بدأته عسكرياً، وخاضت المواجهة الأشرس باعتبارها الأكبر تنظيماً وحيثية.
ومع سقوط الأسد تبدأ سوريا مرحلة جديدة، وكل الأمل أن تبدأ معها علاقة جديدة بين دولة لبنان ودولة سوريا، ومع سقوط الأسد يسقط الجسر الإيراني الذي يربط طهران ببيروت، ويُصبح “حزب الله” مضطراً إلى تطبيق الدستور والقرارات الدولية ونص قرار وقف إطلاق النار الذي وقّع عليه، فيتخلّى عن سلاحه بعد تأخير دام 34 عاماً، ويبدأ لبنان حقبة جديدة خالية من دول إقليمية توسّعية.