لماذا يسعى جنون إسرائيل إلى توسيع الحرب؟
كتب مصطفى علوش في “نداء الوطن”:
«سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولًا لا أب لك يسأم ما الحرب إلا ما عرفتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم»
(زهير بن أبي سلمى)
في العام 1953، قرّر ديفيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل، تنفيذ عملية انتقامية ضد قرية قبية الفلسطينية بقيادة الضابط أرييل شارون ذهب ضحيتها تسع وستون من الفلسطينيين الذين نسفت بيوتهم فوق رؤوسهم. عندما ذاع الخبر في العالم وبدأت ردود الفعل المستهجنة تتلاحق، استدعى بن غوريون ضابطه المحبب شارون لتكريمه. تقول الوثائق إنّ بن غوريون قال لشامير «لا يهم ما يقوله العالم عنا، ما يهم هو ما نقوم به نحن على الأرض لتثبيت وجودنا في الأرض التي منحت لنا».
قد يبدو أنّ عدد ضحايا تلك المذبحة لا يذكر بالمقارنة بما حصل وسيحصل في غزة عند استكمال مخطط حكومة الوحوش الصهيونية الحاكمة اليوم في الأرض المحتلة، وهي، بالرغم من الاعتراضات السياسية الداخلية عليها، ما زال نهجها تجاه الفلسطينيين يمثل توجه الأكثرية الساحقة من يهود إسرائيل ومعهم الكثيرون من يهود العالم. هذا لا يجب أن يجعلنا ننكر على العديد من أصحاب الضمائر الحرة من اليهود تأييدهم للحق الفلسطيني بشكل يتجاوز أحياناً ما قبل به بعض الفلسطينيين كتسوية. هؤلاء اليهود الأحرار وصفوا دولة إسرائيل بما هي بالفعل، أي دولة استعمار وتجبّر وعدوان وفصل عنصري، وطالبوا بدولة يعيش عليها عرب ويهود بالتساوي…
بن غوريون بالذات، كان يرفض أي تسوية تفرض السلام مع العرب لكونها ستضع حداً لمشروع إسرائيل الكبرى. كان يراهن على ردود فعل منطقية وعنيفة من قبل العرب، لحفظ ماء الوجه على الأقل، أو «لفشة خلق» للشعب المظلوم، أو لتسويغ الاستمرار بالحكم لبعض القادة بحجة أن تحمل ظلمهم وتخلفهم هو في سبيل «حشد الطاقات للمعركة الكبرى ورمي العصابات الصهيونية في البحر». رهان بن غوريون، ومن بعده كل قادة إسرائيل، كان على استغلال ردود الفعل العنيفة، بمختلف أشكالها، لتسويغ العنف الأكبر واحتلال المزيد من الأراضي، وجعل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن غير قابلة للتنفيذ بعد أن يتخطاها الزمن.
كما أنّ كل مبادرات السلام المعقولة، كانت قيادات إسرائيل تعتبرها نوعاً من «الاعتداء على إسرائيل بالسلام»، وكانت تواجهها بافتعال حرب تكتيكية، وبعض الأحيان الاستفادة من عملية فدائية تطال مدنيين يهوداً في سبيل جعل أي مبادرة سلام غير قابلة للنقاش. الوثائق بهذا الخصوص كما الوقائع أثبتت تكراراً أنّ إسرائيل استفادت من كل ردود الفعل العنيفة والحروب التكتيكية وتوازنات الرعب لكي تتملص من كل مبادرة جدية لوقف جموحها الاستعماري، بينما هي تتسلح بكل وسائل الردع الاستراتيجي، أكان محلياً أو دولياً.
السؤال الآن هو «ماذا تستفيد إسرائيل اليوم من توسيع رقعة الحرب؟» بالرغم من الخسائر الكبيرة التي تتكبدها اقتصادياً وإعلامياً وحقوقياً وبشرياً، الجواب هو أنّ إسرائيل أعدت العدة للمخاطر الاستراتيجية الخارجية، على الأقل في المدى المنظور من خلال تطور الآلة العسكرية والتكنولوجية، من جهة، والقوة النووية ودعم الولايات المتحدة، من جهة أخرى. وما المناوشات والصواريخ الصغيرة والتهديدات العابرة إلى ما بعد حيفا سوى أخطار صغيرة محسوبة في موازين الربح والخسارة. فمسألة خسارة أرواح بعض اليهود في سبيل أرباح استراتيجية ليست جديدة على الفكر الصهيوني العنصري.
الخطر الاستراتيجي الداهم بالنسبة لوجود «الدولة اليهودية» هو داخلي بوجود أكثر من سبعة ملايين ساكن غير يهودي على الأرض التي يعتبرها الصهاينة «أرض إسرائيل الصغرى» وهي من النهر إلى البحر، ومن ضمنها الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد أثبتت كل وسائل التمييز العنصري والعنف والتنكيل والإذلال اليومي والاعتقالات التعسفية بحق «الغويم»، أي من هم من غير اليهود، عدم جدواها في جعل فلسطين تتحول إلى دولة صافية العرق. لقد أثبت الفلسطينيون بمختلف أشكالهم مرونة عجيبة في التعامل مع كل صنوف التحديات للبقاء في فلسطين، وقد سدت، على كل الأحوال، سبل الخروج من المعتقل الكبير في الضفة والقطاع. من هنا، فإنّ الحديث عن ترانسفير شبه كامل للعرب الفلسطينيين إلى مصر والأردن في بدايات الحرب على غزة لم يأت من الفراغ، فهو «الحل النهائي» ذاته الذي انتهى بالمحرقة مع النازيين، في حين أنه ابتدأ بتهجير اليهود إلى خارج ألمانيا وأوروبا في بداياته. لكن محرقة من هذا النوع لم تكن ممكنة إلا بغطاء حرب كبرى مثل الحرب العالمية الثانية حيث انشغل العالم بأجمعه في شؤون الحرب على الجبهات، ولم يسأل أحد عما يحدث في «الداخل» من ويلات.
هذا بالذات ما تسعى اليه حكومة الموتورين القوميين النازيين في إسرائيل وهو أن تتسع رقعة الموت والدمار الى كل المنطقة، وبالذات إلى لبنان والبحر الأحمر، حتى تتمكن من إجبار مئات آلاف الفلسطينيين المحتشدين في العراء في رفح على التوجه إلى سيناء وذلك بعد تحويل رفح إلى محرقة. وطالما أنّ البقاء للأقوى، فإنّ العالم الذي تعامل مع مجزرة سورية المستمرة، موتاً ودماراً وتهجيراً، قد يستهجن ويستنكر وقد يقطع العلاقات ويطالب بالمحكمة الدولية، لكن، بالمحصلة، فمن هُجّر سيبقى مهجراً ومن قُتل سيبقى ميتاً، حتى وإن صار شهيداً، وما بقي سيتحول إلى واقع جديد، لا يلبث العالم إلا ويتأقلم معه.
ما المغزى من كل ما سبق، حتى وإن تلقيت الشتائم على قولي، هو أن إسرائيل تتحقق سياساتها الاستراتيجية مع كل عمل عنيف تكتيكي يهدف، وعن حسن نية، إلى «دعم» أو «تخفيف الضرر» على أهل فلسطين. لا بل أنّ أمثال نتنياهو يتمنون حدثاً عنيفاً على شاكلة طوفان الأقصى أو بقصف مصنع الأمونيا في ما «بعد حيفا» يسقط فيه مئات من الإسرائيليين، فيصبح «الرد» مسوغاً لا يعترض عليه أحد، وإن احتج فبالكلام لوحده.