جراح “الرسمي” تتعمّق: كباش “التربية” والأساتذة “الممتنعين”

كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
ما تقوم به وزارة التربية ممنهجٌ لضرب المدارس الرسمية، والدولة تحاربنا بشكلٍ قاسٍ… لقد حوّلونا إلى عمّال بالسخرة». صرخة أطلقها أساتذة التعليم الثانوي الممتنعون عن العمل بعد الحسومات التي فُرضت على رواتبهم، وقرارات النقل «الكيديّة» التي أصدرها وزير التربية، عباس الحلبي، مؤخّراً بحقّهم. فهل ما يحصل صفحة أخرى من كتاب الممارسات التأديبية «المقنَّعة» ردعاً للأساتذة عن المطالبة بحقوقهم، أو أكثر؟

الحرب الدائرة بين الأساتذة الممتنعين والوزير الحلبي لم تَعُد «باردة» على ما يبدو. ذلك بعد أن تقدّمت لجنة الحقوق والكرامة لأساتذة التعليم الثانوي الرسمي بكتاب إلى التفتيش المركزي، تاريخ 18/01/2024، تطالب فيه برفع الغبن اللاحق بالأساتذة جرّاء قرارات الوزير الكيدية والعشوائية، ومتمنّية من المفتشية العامة التربوية وضع اليد على الملف. الانقطاع لم يكن خياراً لدى هؤلاء إنّما هو واقع فرَض نفسه في ظلّ الظروف الاقتصادية التي سلبت الأستاذ قدرته على تأمين الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة، له ولعائلته. فالذين امتنعوا عن العودة إلى التعليم بعد أن فكّ أساتذة التعليم الرسمي إضرابهم في آذار الماضي – وتخطّى عددهم الـ4500 أستاذ قبل أن ينخفض إلى عتبة المئة – مصرّون على موقفهم حتى تصحيح رواتبهم بحسب قيمتها الشرائية. مدى خضوع الإدارة التربوية للتدخلات الخارجية في إصدار قراراتها ليس سرّاً. فهل سيتمكّن التفتيش التربوي من حلّ النزاع المتفاقم؟

نجول على بعض «الممتنعين» بدايةً. «لا يمكنني تأمين بدل النقل للحضور إلى عملي. راتبي لا يتعدّى المئة دولار بعد أن كان 1750 دولاراً، حتى مع إضافة المساعدة الاجتماعية. أما الحوافز فغير مضمونة. والمساعدات الاجتماعية، التي هي عبارة عن أربعة رواتب، لا تدخل في أساس الراتب»، كما يخبرنا أحدهم. ويضيف: «تخيّلوا أن الأستاذ تحوّل إلى مياوم يُحاسَب على إنتاجيته. ففي حال مرض ولم يتمكّن من تأمين الحضور أكثر من 14 يوماً شهرياً، هل تُحسم رواتبه الأربعة؟».

نسمع أكثر: «بحكم وظيفتي، اضطررت لتوظيف عاملة نظافة، فبتّ أتقاضى 50 سنتاً على الساعة في حين تتقاضى هي 5 دولارات. وبدل الإنتاجية الذي كنّا نحصل عليه بقيمة 300 دولار حُرمنا منه كوننا ما زلنا منقطعين عن العمل. حصل ذلك بعد أن قام مدير التعليم الثانوي بالتكليف، خالد حسن الفايد، بتوجيه رسائل صوتية إلى دارسي المناطق يطلب تبليغ مدراء الثانويات بعدم وضع بيانات أي أستاذ منقطع على برنامج SIMS (وهو نظام مكننة تمّ اعتماده لتسريع تبادُل المعلومات بين الوزارة والمدارس)، مخالفاً بذلك التعاميم المعتمَدة. فهل يُعقل أن تلغي رسالة صوتية أو مكالمة هاتفية تعميماً رسمياً؟»، كما يتساءل آخر.

من يوقف المخالفات؟
نبقى مع الممتنعين ونسأل عن سبب تراجُع أعدادهم في الفترة الأخيرة. يجيبنا أحدهم بأن عودة البعض إلى التدريس تمّت بناءً على طلبات حزبية، أما البعض الآخر فجرى إسكاتهم بمبالغ مادية مُنحت بواسطة قوى مدنية وسياسية. لكن ماذا عن المتمسّكين بقرار الامتناع حتى الساعة؟ «يقوم الوزير بمحاربتنا بشكل لافت ويرفض التواصل معنا أو اللقاء بنا. لا بل راح يحسم من رواتبنا (التي لا قيمة لها أساساً) بشكل تعسّفي وها هو يصدر بشكل متكرّر قرارات كيدية لنقلنا من ثانوية الى أخرى، مخالفاً بذلك الأصول».

نتوسّع في قرارات النقل – الكيدية والتأديبية، برأي الأساتذة – لِكمّ الأفواه وترهيب الممتنعين، من جهة، ولتمرير تنفيعات عبر توظيف المتعاقدين بدلاً من الأساتذة الذين يتمّ نقلهم، من جهة ثانية، كما يكرّرون. فبحسب المادة 4 من المرسوم رقم 4234 الصادر بتاريخ 24/10/2000، والذي يحدّد أسُس إلحاق ونقل أفراد الهيئة التعليمية في ملاكات وزارة التربية والتعليم العالي، يُحظر نقل أي أستاذ إذا لم تكن المدرسة المقترح النقل إليها بحاجة حقيقية إلى خدماته (ذلك في حين عبّر معظم مدراء المدارس عن عدم حاجتهم لأي من الأسماء المنقولة إلى مدارسهم). أما المادة 11 من المرسوم نفسه، فوُضعت لمنع نقل الأساتذة خلال العام الدراسي حفاظاً على حسن سير العمل مع الطلّاب. ورغم ذلك، أصدر الوزير، بتاريخ 21/12/2023، ملحقَين لنقل مجموعة كبيرة من الأساتذة. وبتاريخ 12/01/2024، صدر قرار عن الفايد يهدّد فيه الأساتذة الصادرة أسماؤهم في قرارات النقل بالفصل في حال لم يلتحقوا بالثانويات التي نُقلوا إليها، معتبراً ذلك انقطاعاً عن مركز العمل.

أمام مجموعة المخالفات والقرارات هذه، تحرّكت لجنة الحقوق والكرامة لأساتذة التعليم الثانوي، خصوصاً بعد ما وردها من شكاوى تفيد بنقل أعداد كبيرة من الأساتذة إلى ثانويات بعيدة عن مراكز سكنهم. أحد أعضاء اللجنة وأستاذ التعليم الثانوي في ثانوية رينيه معوّض الرسمية، رائد همدر، أشار لـ»نداء الوطن» إلى أن القرارت ليست اعتباطية فقط، إنما تعسّفية أيضاً. «هناك غبن لحق بالأساتذة ونرى أن هذه السياسة في التعاطي ليست حكيمة. لا نريد تحميل وزير التربية وحده تبعات ما يحصل إنّما الحكومة مجتمعة ومختلف القوى السياسية. المدرسة الرسمية لم تَعُد كما كانت، ونحتاج أكثر من أي وقت مضى لحكماء يديرون هذه الملفات».

اللجنة رفعت الصوت وتقدّمت بكتاب إلى التفتيش المركزي منذ أسبوعين تحت رقم 261/5 بانتظار أن تباشر المفتشية التربوية بالنظر في المعطيات المقدّمة إليها. حصل ذلك بعد أن تبيّن بأن خطوات الوزارة عشوائية، غير مدروسة ومخالِفة بمعظمها للقانون. كما لوحظ أن معظم الأساتذة الذين وردت أسماؤهم في لوائح النقل هم من الممتنعين قسراً، ما يدعم فرضية أن تكون القرارات تعسّفية. «نحن في بلد «عصفورية»، لكننا نحاول تثبيت حقوق الأساتذة كما نطالب بأن تأخذ الجهات الرقابية، ومنها التفتيش المركزي، دورها كونها الضمانة الوحيدة لنا. فإن لم يُرفع الغطاء السياسي عن الجميع، وحتى عن جزء لا بأس به من التفتيش، لن ينتظم العمل»، كما ختم همدر.

من الأساتذة الممتنعين إلى التفتيش المركزي. المفتش العام التربوي، فاتن جمعة، أفادت في اتصال مع «نداء الوطن» بأن لكل موظف حقوقاً وواجبات ومن حقه الحصول على راتب عادل يسمح له بحياة لائقة. ورغم أن القرارات الإدارية ما زالت غير كافية لتحسين ظروف الموظف المعيشية، إلّا أن الدستور وقانون الموظفين اللبناني يمنعانه من الإضراب أو الامتناع عن العمل ويجيز للإدارة اعتباره مستقيلاً. «نحن اليوم أمام مخالفة للنظام الداخلي للثانويات الرسمية، لا سيّما المادة 28 منه التي توجب على الأساتذة التقيّد بنظام الموظفين بما يتّفق والرسالة التربوية ومبدأ استمرارية المرفق العام، كما تغليب المصلحة العامة على الخاصة واحترام الموظّف لرؤسائه المباشرين. فكيف بالأحرى الأستاذ الذي ينعكس سلوكه على تصرفات طلّابه؟».

نسأل عن الحسومات التي تُفرض على رواتب بعض الممتنعين وتعليق البعض الآخر منها، فتجيب جمعة بأن المفتشية تقوم باستقصاء المعلومات لمعرفة مدى وجود أخطاء أو غبن لناحية دفع الرواتب المستحقة. وأشارت إلى أن المادة 16 من نظام الموظفين لا تجيز لأي موظف أن يتقاضى راتباً وظيفياً ما لم يكن قائماً فعلياً بمهامه. فمجرّد توقيع الأستاذ على دفتر الحضور دون القيام بواجباته التدريسية لا يعني حصوله على الحوافز والراتب المستحق له. «في هذه الحال، يحقّ للإدارة، لا بل من واجبها، أن تستقطع من راتبه الشهري ضمن الحدود التي يجيزها القانون. وقد كُلّفت المفتشية، بموجب تكليف خاص صادر عن رئاسة التفتيش المركزي، واستناداً لطلب وزير التربية، بالتدقيق بمدى أحقية الأساتذة بالبدلات والحوافز التي تُدفع لهم. وسنجري التحقيقات ضمن الإمكانيات المتاحة».

نتابع مع جمعة ونستفسر عن قرارات النقل «الكيدية» بنظر الممتنعين. تخبرنا أن نقل أفراد الهيئة التعليمية يتمّ وفق أصول قانونية يجب على الإدارة احترامها. وأبرزها إتمام مناقلات الأفراد قبل بدء العام الدراسي وفقاً لدراسة ميدانية. «يثبت صدور عدة قرارات نقل خلال العام الدراسي أن الوزارة لا تقوم بواجباتها لناحية إجراء دراسات دقيقة قبل فتح المدارس أبوابها، ويؤكّد على التدخلات الخارجية المتحكّمة بالقرارات، وهذا يؤدّي إلى تعديل البرامج عدة مرات خلال العام الدراسي. «عندها يمكن إبطال القرار إمّا لكونه معيوباً بمخالفة الأصول، وإمّا لثبوت كونه من القرارات التأديبية المقنَّعة فيكون معيوباً بإساءة استخدام السلطة».

بالعودة إلى الشكوى المقدّمة من لجنة الحقوق والكرامة، شدّدت جمعة على أن المفتشية ستُتابِع مدى وجود نقل تعسّفي كما قانونية القرارات لجهة حاجة المدرسة المنقول إليها هذا العدد من الأساتذة. وستتأكّد ما إذا كانت القرارات تقتصر على الممتنعين، بحيث تكون الإدارة التربوية قد تهرّبت من اتّخاذ أي عقوبات تأديبية بحقهم، واتّجهت نحو قرارات أسهل وأبسط لتحقيق رغبتها الردعية بشكل غير مباشر. «يمكن أن يطال تحقيقنا ترتيب مسؤولية على الموظف المسؤول عن دراسة أوضاع وحاجة المدرسة المنقول إليها، خصوصاً إذا نتج عن النقل تعاقد غير قانوني. لكن كُتب المفتشية عبارة عن توصية لوزارة التربية ليس أكثر، ويبقى لمجلس شورى الدولة حصراً حق اتّخاذ قرار الإبطال».

جمعة لفتت إلى أن الوزير الحلبي، الذي يتجاوب مع الكتب الصادرة عن المفتشية لثقته بموضوعيتها، وُضع في صورة بعض قرارات النقل التي ألحقت ضرراً كبيراً بالأساتذة. وتمنّت على هؤلاء القيام بواجباتهم التعليمية حفاظاً على حسن سير العمل. «كثرة الإضرابات والامتناع عن التعليم انعكسا سلباً على الثقة بالتعليم الرسمي التي لا يمكن استعادتها إلّا عبر تطبيق القوانين ومحاسبة المسؤولين. هدفنا تأمين مصلحة الطالب، لا المصلحة الشخصية لأي موظف أو أي جهة أخرى. كما نشدّد على ضرورة الإسراع في إصدار القرارات التي تحسّن واقع أساتذة التعليم الرسمي وتقوية صلاحيات المفتشية لرفع المستوى وإعادة الثقة بالتعليم الرسمي بشكل عام».

«حين يصل بنا الأمر إلى إعطاء شهادات مرتكِزة على ربع منهج تعليمي، وإخضاع الطلّاب لامتحانات بهذا المستوى المتدّني، سنرفض قطعاً أن نكون شهود زور على الخراب الذي يلحق بطلّاب القطاع الرسمي». هي صرخة أطلقها أحد الأساتذة الممتنعين. وقد تختصر الخطر التربوي المحدق بمستقبل أجيال «الرسمي».

لمتابعة أحدث وأهم الأخبار عبر مجموعتنا على واتساب - اضغط هنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى