“اطردوهم إلى أرض كنعان”… أسباب كُره الأوروبيين لليهود عبر الزمن!
كراهية الأوروبيين لليهود، والتي ظهرت في القرن التاسع عشر، فيما عرف بالمسألة اليهودية، والتي كانت من حلولها وجود الصهيونية وطرد اليهود إلى فلسطين، أما أغنياؤهم فهاجروا للولايات المتحدة الأمريكية، هذا الكره له جذور تاريخية.
الجذور التاريخية لكراهية الأوروبيين لليهود تمثل بعضها في أنه عقدي، نابع من الكنيسة الكاثوليكية في روما، والتي ترسخت في أذهان الشعوب الأوروبية، وأخرى بسبب الصراع بين البروتستانت والكاثوليك، إذ دعم البروتستانت اليهود في مقابل كراهية الكاثوليك لهم، فعزل الكاثوليك اليهود في جيتوهات شتات ومارسوا ضدهم العنف.
كما كان هناك شق اقتصادي محض، فاليهود يعملون في الربا، وبالتالي أصبحت تتراكم عندهم ثروة كبيرة، وكلما استحوذوا على الثروة صارت في أيديهم قوة اقتصادية تؤثر في السياسة، وحركة التاريخ وأدت لتنامي حقد فقراء المسيحيين ضدهم، كذلك حقد من لم تدعمهم اليهودية بالمال، وبرزت المسألة اليهودية.
ولكي نفهم المسألة اليهودية في الغرب، يجب العودة لدعم البروتستانتية لليهود، وتحفيزهم للعودة لفلسطين وترك أوروبا، إضافة لانقلاب مارتن لوثر، رائد حركة “الإصلاح الديني” البروتستانتي على اليهود في آخر أيامه.
كانت البروتستانتية، على يد مؤسسها الأول مارتن لوثر، الباب الذي جعل الطريق مفتوحاً لاكتشاف الجذور اليهودية للمسيحيين، أو بداية التهويد في الفكر المسيحي المخترق لدى التيارات البروتستانتية على اختلافها، وكانت بدايات ذلك كتابه المعنون “المسيح ولد يهودياً”، وقد أخرجه للناس عام 1523م.
إلا أن لوثر قبل وفاته بنحو عامين في عام 1544م ألف كتاباً آخر أسماه “أكاذيب اليهود”، ونقض فيه تماماً مضامين الكتاب الأول، ويدل عنوان الكتاب على ذلك بوضوح.
وانقسم الناس حول صنيع لوثر وانقلابه هذا على اليهود.
الشق الأول البروتستانت أتباع لوثر، فكثير منهم قابلوه بالرفض والإنكار، وقد قرأوا كتابه الأول واعتمدوه، لاسيما البروتستانت المتصهينين، أما الشق الثاني من الكاثوليك والأرثوذكس، خاصة العرب ممن قرأ هذا الكتاب، إذ أثبتوا الكتاب الثاني وأنكروا الأول، بل إنهم لم يذكروا الأول البتة.
كيف للوثر، الذي اعتبره البروتستانت الصادق المحترم، الذي قاتل روما الفاسدة المفسدة، بطل ألمانيا والبروتستانت، كيف له في نفس الوقت أن يوصف بالمرعب غير الصادق، عصبي المزاج، المعادي لليهود والسامية؟
وقد اختلفوا حول الأسباب التي دفعت لوثر إلى هذا الاتجاه المعادي لليهود، فأما البروتستانت الذين رفضوا رؤيته المعادية للسامية، فقد برروا موقفه بتقدم السن والأزمات النفسية التي مر بها في أواخر حياته.
وأما التفسير الآخر، فهو أنه لما فشل في تحقيق مراده من تحويل اليهود إلى المسيحية البروتستانتية، ويأس منهم، لاسيما وقد وجدهم على النقيض مما يريد فعله، كانوا يسعون إلى تهويد المسيحيين، فبدلاً من تحويلهم هم إلى المسيحية البروتستانتية، استغلوا هم حالة التعاطف معهم، والحرية الدينية التي حظوا بها، واتجهوا إلى جميع أنصارهم، وعملوا على تحويل المسيحيين إلى اليهودية.
واستغل يهود أوروبا هذه الحالة الجديدة في مصلحتهم العامة، من أجل رفع صور الاضطهاد المختلفة الواقعة عليهم على الصعيد الاجتماعي الأوروبي، واتخذوها منطلقاً للتحرر من الاستعباد الكنسي الرومي.
فبعد هذه الخيبة والفشل التي انتهى إليها لوثر من وهمه لدعوة اليهود إلى المسيحية، صار ينظر إليهم كأنهم الشياطين، وقد كان الشيطان في فكر لوثر له وجود جسدي وحقيقة طبيعية، واعتبر لوثر اليهود العدو الثاني للمسيحيين بعد الشيطان.
هذا مع بقائهم على سائر الصفات الذميمة في نظر الأوروبيين، والأسباب التي من أجلها كانوا محل بغض الأوروبيين، ومن أهمها إصرارهم على التعامل بالربا والإقراض الذي تحرمه الكنيسة. فظل اليهود هم اليهود محتفظين بأسباب البغض الأوروبي المسيحي لهم لم يتغيروا، حتى وإن كان هذا الذي كان من لوثر والبروتستانتية، بداية وفاتحة عهد التسامح الديني المسيحي – اليهودي.
تاريخ اليهود في أوروبا قبل لوثر والبروتستانتية تاريخ من المعاناة والاضطهاد، فقد تعرضوا لفترات طويلة من التمييز والاضطهاد التاريخي، وكانوا عرضة لأعمال العنف والكراهية والتحريض.
ويرجع ذلك في الأغلب إلى أسباب متعددة.
من أهم الأسباب السبب الديني، ويتبلور في موقف المسيحية منهم، حيث يعتبرونهم قتلة المسيح، فالمسؤولية التاريخية عن قتل المسيح وصلبه تقع على عاتقهم “يهوذا باع المسيح”، ومع انتشار المسيحية في أوروبا في القرن الرابع الميلادي ترسخ البغض لليهود وكرههم.
أما النقطة الدينية الأخرى، فهي نظرة اليهود لأنفسهم أنهم شعب الله المختار، فقد فرضوا على أنفسهم العيش في مناطق معزولة عن المجتمع الذي يعيشون فيه، فبالتالي ظلوا على نظرة المجتمعات الأوروبية كغرباء، أي حافظوا على شتاتهم من الانخراط والذوبان الكامل في المجتمعات المستضيفة.
فوق ذلك، نظر اليهودي للشعوب الأوروبية نظرة احتقار، وبالتالي كان يمارس كل فنون الحيل ضد الأوروبي، ما استدعى عداوته، إذ كان اليهود ينظرون بأنهم أذكى وادهى ومؤيدون من الله، وأنهم شعب الله المختار الذي خصهم برسالته، ولذلك يتعالى على بقية المجتمع المحيط حوله، حتى امتنع عن التزاوج والتداخل مع الأوروبيين.
ومن الأسباب الأخرى ما هو اقتصادي مالي، حيث اشتغل اليهود بالإقراض والربا، وهو ما كانت تحرمه الكنيسة على الآخرين، وهو ما أدى إلى تعاظم الأموال بأيديهم، مع ما اتصفوا به من البخل والشح، وكلما تعاظم المال في أيديهم أصبح في أيديهم حجم كبير من الثروة، والثروة قوة.
مما نظر إليه أنه تحكم اقتصادي وسيطرة على المجتمعات المسيحية التي يعيش فيها اليهود، وهو ما أدى لاضطهادهم من قبل النبلاء والأمراء والحكام ورجالات الكنيسة، وكان له أسوأ الأثر على الصعيد الاجتماعي كذلك.
كذلك أدى انهيار النظام الإقطاعي تحديداً في روسيا إلى بغض اليهود وتفجّر أزمتهم، نظراً لأن اليهود كانوا يعملون في الوساطة بين الإقطاعيين والفلاحين الروس، إذ يقومون بدفع أموال إيجار الأرض للإقطاعي مرة واحدة، ثم يحصلونها من الفلاح المستأجر.
كذلك يقومون بإقراض الإقطاعيين بالربا، وكذلك قاموا ببيع منتجات الإقطاعيين، ما أعطاهم نفوذاً في التحكم في أسعار المنتجات نسبياً، كذلك كانوا يتاجرون في “العبيد”، ومع إلغاء الرق في روسيا 1861م، وانهيار النظام الإقطاعي أدى ذلك لبروز وانتشار ثقافة الفلاحين الباغضة لليهود.
إذ كانوا في نظر الفلاحين والإقطاعيين استغلاليين، لكن لا بد من التعامل معهم حتى تستمر الحياة والمنفعة المتبادلة، ولكن مع انهيار النظام الإقطاعي أصبحت الثقافة المتوارثة ضد اليهود هي المسيطرة، إذ بلغ ذروتها اغتيال القيصر 1881، خصوصاً مع تبني اليهود الأفكار الاشتراكية والقومية المادية فصنع حولهم أكذوبة عن سيطرتهم على العالم، وصدر كتاب ملفق عنهم تحت عنوان “بروتوكولات بني صهيون”.
يقول فيودر ديستوفسكي في مقالة ” المسألة اليهودية” 1877 ترجمة الناقد جورج كعدي:
لنفترض أنّ من الصعب جداً معرفة القرون الأربعين التي يتشكّل منها التاريخ اليهودي، لكنني أعرف في المقابل أمراً واحداً على الأقلّ، أعرف أنّه لا يوجد شعب في العالم كلّه يشكو دونما انقطاع البتّة – في كل دقيقة وثانية – من المصير الذي ألمّ به، مثلما يفعل اليهود. إنّهم يندبون حظّهم مع كلّ خطوة، مع كلّ كلمة، يشكون من عذاباتهم، ومن احتقار الآخرين لهم، ومن آلامهم التي لا تنتهي.
يشكون من كل شيء إلى حدّ أنك تنسى أنّهم هم الذين يسيطرون على أوروبا، وأنّهم هم المتحكّمون في أسواق البورصة هناك. ومع ذلك، تراهم يتذمّرون باستمرار من السياسات الداخلية اللاأخلاقيّة لمختلف حكومات تلك البلدان.
ولكنّني بالرغم من كل شيء، لا أستطيع أن أثق بصرخات اليهود حين يُعلنون أنّهم معذّبون، ومحتقرون. في رأيي أنّ الفلاّح الروسي، وبشكل عام الإنسان الروسي البسيط يحمل على كاهله من الهموم أكثر ممّا يحمله أي يهودي.
عندما كانت جماهير اليهود “تعاني من حرّية اختيار مكان الإقامة” كان ثلاثة وعشرون مليون إنسان روسيّ يعانون من نظام القنانة أي العبودية، ذلك النظام هو – بلا شك – أكثر قهراً وإذلالاً من مجرد “حرية اختيار مكان الإقامة”.
وماذا حدث؟ هل أشفق اليهود وقتئذٍ على هذه الملايين كلّها من بسطاء الروس؟ لا أعتقد. اسألوا في غرب روسيا وفي جنوبها إذا كنتم لا تصدقونني. فحتى في ذلك الحين كان اليهود يصرخون ويشكون من أنّهم منسيّون ومعذّبون، كانوا يصرخون مطالبين بالحقوق التي لم يكن يمتلكها الشعب الروسي نفسه. كانوا يصرخون مطالبين بالحقوق التي “عندما نحصل عليها سوف نقدم بدورنا الواجبات الكاملة تجاه الدولة والشعب الأصليّ”.
وأخيراً جاء المنقذ وأنقذ الشعب الأصلي. فماذا حدث؟ من الذي انقض عليه كما ينقض على فريسة؟ من الذي ناب عن الإقطاعيين في استغلال هذا الشعب حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً؟ من الذي سخر حرفته الأبديّة (تخزين الذهب) في مص دماء بسطاء الروس؟ أقول لكم إن الفرق بين المستغل اليهودي والإقطاعي الروسي كبير جداً.
فالإقطاعي – على الرغم من أنه استغل فلاحيه أبشع استغلال – إلا أنه كان يسعى دائماً إلى عدم تدمير هؤلاء الفلاحين، من أجل مصلحته الشخصية على الأقل، ولذلك لم يسع إلى استنفاد القوى العاملة لفلاحيه.
أمّا بالنسبة إلى اليهودي فالأمر مختلف. إنه لا يهتم إذا استُنفدت طاقة الإنسان الروسي أم لا. أخذ ما أخذ ثمّ انصرف.
أعلم أنّ اليهود، عند قراءة هذه اليوميات، سوف يصرخون قائلين: إن هذه ليست سوى أباطيل، وإن هذا افتراء، وإنني كاذب ويعود سبب كذبي إلى أنني أؤمن بمختلف الحماقات، وإلى أنني لا أعرف تاريخ القرون الأربعين “لهذه الملائكة” النزيهة الطاهرة، والتي لم يُعطَ لها ليس ما أعطي للأجانب فحسب بل حتى ما أعطي للشعب الروسي الذي أعبده أنا، بحسب قول أحدهم.
فلنفترض أن اليهود في العالم كله لا يتمتعون بحقوق الشعوب الأصلية، بما في ذلك روسيا بالطبع.. فلنفترض هذا. أما أنا فقد قرأتُ في عدد آذار من كتيب “بشير أوروبا” تقريراً عن اليهود في الولايات المتحدة الأميركية – وتحديداً في الولايات الجنوبية منها – يقول إن اليهود هناك قد انقضوا على ملايين الزنوج المحررين حديثاً من العبوديّة وأخذوا يستغلّونهم بطريقتهم الخاصة التي اشتهروا بها، طريقتهم الأبديّة “مهنة الذهب”، مستفيدين من قلّة تجربة هؤلاء القوم المُذَلّين.
لا يكاد ينسى أحد صورة اليهودي، التي رسمها الكاتب الإنجليزي الشهير وليم شكسبير (1564-1616م)، في رواية تاجر البندقية، التي تعتبر الصورة الجلية لكراهية الأوروبيين لليهود، والتي جسد فيها شكسبير بطريقة أدبية صورة اليهودي (شايلوك)، المرابي البخيل المخادع الجبان، وصارت صورته نموذجاً عبر الزمان والمكان لكل يهودي، صار الناس ينظرون إليه ويتذكرون صورة شايلوك.
إلى أن جاء تشارلز ديكنز (1812-1870م)، أي بعد شكسبير بما يزيد عن القرنين، في روايته أوليفر تويست، التي صور فيها اليهود بصورة قبيحة جدا، تمثلت في العجوز اليهودي اللئيم (فاجين)، الذي كان زعيماً لعصابة نشل وسرقة، وتولى رعاية الطفل اليتيم البريء أوليفر، وعلمه كل أساليب السرقة والاحتيال.
ولا يخفى ما في هاتين الروايتين، على البعد الزمني بينهما، من رمزية تصوير دور اليهود في الحياة الاجتماعية والاقتصادية الأوروبية، فهم يربون ويخرجون للمجتمع أشخاصاً على نمط وصورة شايلوك وفاجين.
كانت هذه الكراهية المسيحية الأوروبية لليهود هي الوضع السائد عبر القرون منذ خروجهم إلى الشتات على يد الامبراطور تيتوس عام 81 م، وقد تعرضوا بسببها ولأسباب أخرى، للعديد من الاضطهادات المؤلمة، إلى أن جاء لوثر والبروتستانت، فتغيرت الأوضاع شيئاً فشيئًا.
بالعودة إلى جذور كراهية الأوروبيين لليهود يجب العودة إلى مؤسس البروتستانتية مارتن لوثر، وانقلابه في آخر حياته على اليهود، إذ يعتبر كتابه الثاني مؤثرا في كراهية الأوروبيين لليهود، قد كان ثمت سببا مباشرا استحث لوثر على تأليف كتابه هذا، وهو الرسالة التي وقعت بين يديه، كتبها يهودي حاور مسيحيا وجادله بالباطل، وعمد إلى تزييف نصوص التوراة وتحريفها، فكتب لوثر رداً عليها، وهو كتابه الثاني “أكاذيب اليهود”، ودفعه إلى المسيحي، تكون جواباً فيما اختلفا فيه.
وذكر في رسالته: أنه ليس غرضه تنصير اليهود، فهذا أمر مستحيل، وإن افترضنا تنصرهم، فإن هذا لا يأتي بخير أينما كانوا، ثم شرع يكيل لليهود الاتهامات التي لم تخل عن سباب وشتم وتنقص.
نفي كون اليهود شعب الله المختار، بشكل مفعم بالسخرية، بل هم الشعب المغضوب عليهم من الله. ثم التنبيه على رفض مجادلة اليهود والتحاور معهم، فإنه لا جدوى من وراء ذلك، فإنه لا يمكن إصلاحهم بالنصح، بل يزدادون سوءاً كلما نُصحوا.
وذكر مارتن لوثر إن اليهود هم أبناء إبليس، وأولاد الأفاعي، وهكذا نعتهم المسيح، فهم السم الناقع، ولا يستحقون أن يكونوا أبناء لإبراهيم. وهم بذلك منافقون وسفاحو دماء. وأن مدارس اليهود هي عش لإبليس. وأن تلمودهم أشر من الفلسفة الوثنية، ويدنسون اسم المسيح.
وتحدث عن موقف اليهود من المسيحية والمسيحيين والمسيح، والإساءات التي يوجهونها للمسيحيين عامة وللألمان خاصة، فهم يصفون المسيح بأنه الشرير المشنوق، ويلعنون المسيحيين، ويتمنون هلاكهم، ويتطاولون على مريم ويتهمونها بالبغاء، وخانوا موسى وادعوا أنه أباح الربا، ويجدفون على الأناجيل. إلى غير ذلك من الاتهامات.
وفي رسالة إلى زوجته تم تذييل الكتاب بها، أورد فيها الغاية من كتابه “أكاذيب اليهود” وهي؛ طرد اليهود من ألمانيا، وإعادتهم إلى أرض كنعان، الأرض الموعودة، بينما هم يعيشون في أمان في البلاد ولم يعتد عليهم أحد، وأنه سيؤازر الكونت ألبرخت، كبير أساقفة ماينز في ذلك الوقت، الذي اتخذهم أعداء، ونفض يديه منهم، وسيكون عونا له في خطبه ورسائله حتى يهتك أستارهم، ويحقق هدف طردهم خارج البلاد.
وهكذا انقلب موقف لوثر من اليهود تماماً إلى النقيض، وعبر عن جوهر كراهية الأوربيين لليهود، وورجع عن كل ما كتبه في حقهم في كتابه الأول “المسيح ولد يهوديا”، ويكون بذلك خاض في حياته أطول تجربة، وهي دعوة اليهود إلى المسيحية، ولكنه فقط لم يفشل فشلا ذريعا، وإنما بموقفه الأول وكتابه الأول فتح الباب على مصراعيه لهم للخروج من حالة الاضطهاد والبؤس والشقاء، إلى مرحلة جديدة مختلفة تماماً، سينعمون فيها بالحرية الدينية والتسامح والتعايش بين الأوروبيين، حتى إنهم سيتمكنون من إقناع الغرب المسيحي بإقامة دولة لهم في فلسطين.
لم يكتفِ لوثر بمجرد الدعوة إلى طرد اليهود من ألمانيا وأوروبا إلى فلسطين، وإنما وضع برنامجاً تصعيدياً، رسم فيه خطوات عملية، يمكن أن يقوم بها كل مسيحي لمحاربة اليهود، إلى أن يتم دفعهم دفعاً إلى خارج البلاد مطرودين، إذ عبر عن ذروة كراهية الأوروبيين لليهود، ومن هذه الخطوات:
الدعوة إلى اجتناب معابد اليهود ومدارسهم، وتحذير الشعب منهم ومن خطورتهم.
الدعوة إلى منع اليهود من تملك البيوت والمساكن داخل أحياء المسيحيين، ولكن يسكنون الاصطبلات كما يعيش الغجر والأسرى.
الدعوة إلى انتزاع كتب الصلوات وأسفار التلمود وسائر كتبهم من بين أيديهم.
الدعوة لمنع الحاخامات ورجال الدين من ممارسة مهنة التعليم، فهم أصل البلاء.
الدعوة لرفع الحماية والأمان الممنوحين لهم.
العمل على منع تعاملهم بالربا، لأنه موردهم الوحيد، ويجعل منهم سادة والألمان عبيداً.
الأموال التي تجمع من اليهود يتم تقاسمها مع السلطات، ويعطى منها اليهود الذين يتنصرون بحق ويثبتون على التنصر، بما يكفي أودهم وعائلتهم.
وقد اعتبر لوثر اليهود قسمين: الأول أولئك الذين كانوا مع موسى في الأرض المقدسة يلتزمون الشريعة. والثاني الذين كانوا تحت حكم الرومان.
واليهود في عصره لا علاقة لهم بموسى، وإنما هم من القسم الثاني، ولا سبيل لهم إلا أن يعودوا إلى الأرض المقدسة ويعملوا بشريعة موسى.
وبما أنهم عصاة يمتنعون عن شريعة موسى، ويخضعون لحكم القيصر في بلاد أجنبية، فيجب عليهم أن يعملوا بشريعة القيصر طائعين، ويمتنعوا عن الربا، إلا أن يعودوا إلى طاعة موسى، وحتى ذلك الوقت فليس لهم أرضاً يملكونها كما للأمم غيرهم.
على الرغم من كراهية الأوربيين لليهود لم ينتشر كتاب مارت لوثر “أكاذيب اليهود” لعدة أسباب، منها أنه كتبه في آخر عمره، بعد ما شاخ وقد خفت نجمه وتراجعت مكانته. ومنها محاربة اليهود بقوة لهذا الكتاب وإخفائه وإبادته بطرق مختلفة، حتى إنه لم يكتشف إلا في عام 1948م، وطبعته في لوس أنجلوس منظمة تُدعى “الصليبية المسيحية الوطنية”.
كما حارب اليهود مقالة “المسألة اليهودية” لدوستويفسكي التي للا يوجد لها إلا نسخة نُشرت عام 1912.
ومن تلك الأسباب أن الكتاب الأول قد ذاع صيته وانتشر في ربوع أوروبا، حتى إنه في عامه الأول فقط خرج في 7 طبعات.
من الجدير بالذكر أنه في عام 1983م في اجتماع ممثلي الاتحاد اللوثري في مؤتمرهم في استكهولم، أعلنوا عدم التزامهم بكل ما صدر عن لوثر في شأن اليهود، كما عبر رؤساء الكنيسة اللوثرية الأميركية التي انعقدت في نفس العام، عن أسفهم وعدم علاقتهم بالملاحظات المتطرفة التي أبداها لوثر تجاه اليهود.