الأيقونة مسار إلهيٌّ
كلمة أيقونة في اللغة اليونانيَّة صورة. وفي الكنيسة تعني التصوير المقدَّس. ولكنَّ الأمر لا ينحصر في عمليَّة التصوير، وتقنيَّته وأصوله الفنِّيَّة، أو في أيِّ مدرسة ينتمي إليها، إذ هناك مسار خلاصيٌّ كبير خلف وجود الأيقونة وعمق معانيها.
يبدأ المسار من لحظة خَلْق الله للإنسان إلى تألُّه الإنسان بقوى الله غير المخلوقة، التي تنحدر نحوه، هذا إنْ جاهد بحقٍّ وصدق وتوبة، وتنقَّى واستنار.
تكمن البداية في الإصحاح الأوَّل من سفر التكوين، حيث قال الله: “نعملُ الإنسان على صورتنا كشَبَهنا” (تكوين1: 26). الترجمة السبعينيَّة[1] في اللغة اليونانيَّة للكلمة العبريَّة tzelem أي “صُورَتِنَا” هي eikóna، أي أيقونة.
تُرى بأيِّ معنى أتت كلمة “صورتنا”؟
التفسير اللغويُّ للكلمة العبريَّة قد يعني ظلَّ الخطوط العريضة أو تمثيل الأصل. وفي اللاهوت هي كرامة إلهيَّة للإنسان، وقيمة ما بعدها قيمة. وأيضًا هي بُنوَّة، وهنا الخلاص كلُّه.
الله أعطانا كلَّ الإمكانيَّة والقوَّة والقدرة لتحقيق كمال هذه البنوَّة، فنحقِّق الشبه الإلهيَّ، طبعًا ليس في الجوهر الإلهيِّ بل بالنعمة.
لا يتعجَّبنَّ أحد إن قلنا إنَّ كلَّ النعم الإلهيَّة المعطاة لنا هي «المبدأ الإلهيُّ»: اللوغوس Logos، الربُّ يسوع المسيح. فكانت أوَّل أيقونة إذًا هي الربّ الَّذي سيتجسَّد، والَّذي خلق الإنسان على صورته الَّتي سيتجسَّد فيها.
نعم، الله أعطانا ذاته، أخذ ترابًا وجبل ونفخ فيه نسمة الحياة الأبديَّة. هو في عمقنا وفي داخلنا. ألم يسأل الفرِّيسيُّون الربَّ: “متى يأتي ملكوت الله”؟ فأجابهم: “ملكوتُ الله داخِلكم” (لوقا 17: 20-21).
هذا أعظم اكتشاف يقوم به الإنسان، ولكنَّه يتمُّ فقط بنور الله القدُّوس، كما نصلِّي: “بنورك نعاين النّور”.
في الماضي قرأ سقراط على معبد دلفي: “اِعرَف نفسك[2]”، فدخل في بحث عميق.
هذا تمامًا ما قاله القدِّيس يوستينوس الشهيد الفيلسوف الَّذي جال على كلِّ التيَّارات الفلسفيَّة واختبرها قبل أن يجد ضالَّته في المسيحيَّة. فتكلَّم على البذور الإلهيَّة والروح المحيية عند كلِّ البشر، لأنَّهم مخلوقون على صورة الله. وهذه تصل بالإنسان إلى الربِّ لأنَّها بذور الحقيقة والمبدأ. وهنا الحقُّ، الله أصبح إنسانًا وبقي إلهًا، وقال: “أنا هو نور العالم. مَن يتبَعْني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نُور الحياة” (يوحنا 8 : 12).
هذا ما تقوله أيقونة عيد البشارة، أي عيد التجسُّد الإلهيِّ، في طروباريَّتها: “اليومَ رأسُ خلاصِنا. وإعلانُ السرِّ الَّذي مُنذُ الدهور. فإنَّ ابنَ اللهِ يصيرُ ابنَ البتول…”، وهذا أيضًا ما تُظهره أيقونة عيد الميلاد المجيد الَّذي هو عيد ظهور الله في الجسد.
فإذا أيقنَّا ذلك وعشناه، شعَّ نورُ الربِّ فينا، وكنَّا الأيقونة النورانيَّة الَّتي يريدها الله أن تكون. وما الحرب ضدَّ الأيقونة لكسرها، والَّتي دامت حوالي 120 عامًا (ق 8-9)، إلَّا لكسر صورة الله فينا.
فإذا تأمَّلنا مثلًا بالأيقونات المقدَّسة على الإيقونسطاس عندما ندخل الكنيسة، نخال أنفسنا انتقلنا إلى موطننا الأوَّل الَّذي هو السماء، ونشاهد ما نحن مدعوُّون إليه، أي التألُّه.
يضاف إلى ذلك أيقونات أخرى في الكنيسة، وجداريَّات مثل أيقونة الضابط الكلِّ في القبَّة من الداخل، الَّتي تغلِّف المكان والمؤمنين وحياتنا كلَّها؛ فنحن تحت نظره.
كذلك أيقونة والدة الإله في حنيَّة الهيكل، المعروفة بـ”الأرحب من السموات”، حيث نشاهد مريم فاتحة ذراعيها، والربُّ في وسطها يبارك. تستقبلنا لننضمَّ إلى عائلة المسيح.
ويأتي تبخير الكاهن لكلٍّ منَّا في خدمة صلاة الغروب والسّحر، كما تُبَخَّر القدسات والأيقونات، تأكيدًا على أنَّنا أيقونات حيَّة للربِّ. وما الخطيئة إلَّا دخيلة علينا لتشويه صورتنا. وتبقى التوبة الصادقة هي الَّتي تجعلنا صورة نُشعُّ بها من جديد.
هذا مسار أيقونتنا وقداستنا.
فنزول الربِّ إلينا وصلبه وفداؤه الطوعيُّ على الصليب، وموته بطبيعته البشريَّة، وقيامته من بين الأموات بسلطان طبيعته الإلهيَّة، هو لكي نقوم من حالة السقوط، ونتحرَّر من سطوة الشرير، ونصعد معه إلى الملكوت السماويِّ المُعَدِّ لنا من قبل إنشاء العالم.
بالمنطق البشريِّ هذا أمر صعب إدراكُه، ولكن بالمنطق الإلهيِّ هو ملء المحبَّة، لأنَّ المحبَّة لا تُعاش عن بُعد، بل بالاتِّحاد والتضحية. وأصلًا مَن نحن لنقول للربِّ: “أنت لم تتجسَّد لأنَّ هذا يدنِّسك”؟ أوَّلًا، لا شيء يدنِّسه لأنَّه الله، وثانيًا، هو قادر على كلِّ شيء، وأراد من فيض محبَّته أن يتجسَّد، وطبعًا يبقى إلهًا.
لهذا نحن نتكلَّم على الله باللاتحديد apophatique، بما معناه: “أنت لست محبَّة فحسب، بل فوق المحبَّة، وفوق الوصف والتحديد”.
هذا ما نراه جليًّا في أيقونة التجلِّي مثلًا، فالدوائر الثلاث الملتصقة بيسوع تنتقل من الأفتح إلى الأغمق، تعبيرًا عن أن جوهر الرّب لا يدركه مخلوق.
هذا ينقلنا إلى وقت تسلُّم موسى النبيّ الوصايا من الله، بحيث تقول الآية: “وأمَّا موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الله” (خروج20: 21).
الكلمة اليونانيَّة الأصليَّة / gnófon γνόφον، بمعنى شيء كاتم أو ظلمة. هذا ما عنى به القدِّيس غريغوريوس اللاهوتيُّ بكلامه على الظلمة الإلهيَّة، بمعنى أنَّ الجوهر الإلهيَّ لا يُدرَك.
ختامًا، يكلِّمنا الرب قائلًا: “الإنسان وجه متألِّه، وأنا تجسَّدت لتُشعُّوا، لأنَّكم أيقونات”.
إلى الربِّ نطلب.
[1]. السبعينيَّة هي الترجمة اليونانيَّة للعهد القديم الَّتي أجريت في القرن الثالث قبل الميلاد. حيث يُذكَر أنَّ بطليموس أراد أن يضمَّ إلى مكتبة الإسكندريَّة الكتب المقدَّسة لليهود، والبعض يرى أنَّه بسبب عدد اليهود الَّذين لا يعرفون إلَّا العبريَّة قام اثنان وسبعون من الأحبار بالترجمة. ويرمز لها بعددها اللاتينيِّ LXX أي: «سبعون»