رواتب القطاع العامّ في موازنة 2026: عدالة غائبة وإصلاح مؤجَّل

كتبت رماح هاشم في “نداء الوطن”: شكّل الموازنة العامة لأيّ دولة عنصرًا مهمًا في تقييم الشفافية المالية والاقتصادية، وأداةً لتحقيق السياسات العامة والتغيير. في لبنان، أثار مشروع موازنة العام 2026 الذي أحيل إلى مجلس النواب بعد توقيعه من رئيس الجمهورية مطلع شهر تشرين الأول جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والاقتصادية والنقابية، إذ اعتُبر خاليًا من أي رؤية إصلاحية حقيقيّة. ومن الانتقادات التي وُجّهت للمشروع إغفاله تصحيح رواتب القطاع العام، فبدل أن تحمل الموازنة بشائر تعديل الرواتب أو تحسين في أوضاع العمّال، أعادت تثبيت واقع مرير قائم منذ سنوات، وأثارت تساؤلات حول العدالة الاجتماعيّة وأولويّات الدولة.
رغم تضمين مشروع الموازنة رقمًا كبيرًا لتمويل الرواتب والأجور، والذي يُقدّر وفق معهد باسل فليحان المالي بحوالى 153.394 مليار ليرة لبنانية (نحو 29 % من الموازنة)، إلّا أن القطاع العام لا يزال يعاني من أزمة حقيقية ما يدفع الروابط العماليّة والنقابية لاستمرار التحرّكات الاحتجاحية لرفع الصوت، كان آخرها إعلان رابطة موظفي الإدارة العامة الإضراب في 23 تشرين الأول الماضي تزامنًا مع المؤتمر الصحافي الذي عقده تجمّع روابط العاملين في القطاع العام والذي لوّح خلاله بالتصعيد في حال استمرّ تجاهل المطالب.
تُعتبر قضية رواتب القطاع العام من القضايا الأساسية التي يجب الإضاءة عليها كونها تمسّ شريحة كبيرة من الشعب اللبناني، فما هي أبرز أوجه هذه المشكلة، وكيف يمكن للدولة “المتهالكة ماديًا” تحمّل التكلفة الإضافية على الرواتب، وما هي الحلول البديلة لتصحيح الرواتب وضمان مصلحة موظفي القطاع العام؟
مشروع بلا إصلاح ولا عدالة
ترتكز “الموازنة الإصلاحيّة” على كونها “صفرية العجز”، وبخلاف الحديث عن واقعية هذا القول، إلّا أنها تتضمّن في مشروعها العديد من الثغرات التي تمنعها من تحقيق نموّ اقتصادي في العام المُقبل.
في هذا الإطار، ترى عضو لجنة المال والموازنة النائبة غادة أيوب أن “مجلس الوزراء أقرّ مشروع قانون غير إصلاحي تحت عنوان “حكومة الإصلاح والإنقاذ”، في حين لم يتضمّن مشروع الموازنة أي تعديل في رواتب وأجور ومستحقات موظفي القطاع العام”.
وتسأل عبر “نداء الوطن”: “هل المطلوب زيادة إنتاجيّة القطاع العام وتفعيل دور الجهات الرقابية فيه؟ أم المطلوب العكس، حيث يُدفع الموظف إلى مراكمة ساعات عمل دون إنتاجية، فقط للاستفادة من بدل الساعات الإضافية؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك في ظلّ غياب الرواتب اللائقة وعدم تأمين حياة كريمة للموظف؟”.
هذا الموقف تلاقيه الهيئة الإدارية في رابطة موظفي الإدارة العامة، حيث يقول عضو الهيئة الإدارية في الرابطة إبراهيم نحال “كما كان متوقعًا، صدر مشروع موازنة عام 2026 خاليًا تمامًا من أي رصد لمصلحة موظفي الإدارة العامة، سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين، عاملين أو متقاعدين”. ويُضيف نحال لـ “نداء الوطن”، أن “كل ما لحظته الموازنة هو المساعدة الشهرية التي تتراوح بين 12 و 14 مليون ليرة للعسكريين المتقاعدين أو المدنيين، بينما لم تتضمّن أي بند يحسّن من أوضاع موظفي القطاع العام”.
الأغرب بحسب نحال “أن الموازنة لحظت إيرادات قليلة من الأملاك البحرية والنهرية، فيما يجري الحديث عن عجز مالي أمام الموظفين، بينما تُدفع رواتب خيالية لأعضاء الهيئات الناظمة، ورواتب الوزراء والنوّاب والمستشارين، هذا بالإضافة إلى غياب الدعم عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ما يعني حرمان الموظفين والمتقاعدين من التقديمات الصحّية والاجتماعية”.
إنفاق موجود ولكن!
بحسب معهد باسل فليحان المالي، تبلغ الرواتب والأجور في مشروع موازنة 2026 نحو 29 % من الموازنة، فيما تصل المخصّصات والرواتب في الوزارات إلى 132.509 مليار ليرة (25 %)، والتحويلات إلى المؤسسات العامة لتغطية الرواتب 20.885 مليار ليرة (4 %).
أما المنافع الاجتماعية فتبلغ 72.378 مليار ليرة (14 %)، ومعاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة 75.374 مليار ليرة (14 %)، أي أن إجمالي الرواتب والأجور والمنافع يبلغ 301.146 مليار ليرة لبنانية، أي نحو 56 % من مجموع الموازنة العامة البالغ 534.715 مليار ليرة.
تجدر الإشارة إلى أن الأرقام المُدرجة في الموازنة لا تعكس الكلفة الكاملة للوظيفة العامة، إذ تستثني كتلة واسعة من العاملين في مؤسسات عامة ذات طابع تجاري أو استثماري، الصناديق المستقلة، والشركات المملوكة للدولة، والتي لا تُدمج حساباتها بصورة شاملة ضمن الموازنة العامة أو قطوعات حساب وزارة المالية. والجزء الأكبر من البدلات الشهرية يتكوّن من تعويضات اجتماعية، لا تُدرج ضمن أساس الراتب. وهنا يبرز التساؤل لماذا لا يؤتي هذا الإنفاق الكبير من إجمالي الموازنة ثماره.
يقول الباحث الاقتصادي محمود جباعي لـ “نداء الوطن”، إن “حوالى نصف الإنفاق العام في موازنة 2026 مخصّص للرواتب والأجور، وهو رقم أعلى من العام الماضي، لكنه لا يدخل ضمن إطار إصلاح مستدام بل مجرد مساعدات ظرفية”.
وتؤكّد أيوب المعطى نفسه، موضحةً أن الرواتب والأجور تُشكّل نحو 50 % من الموازنة، أي حوالى 250 مليون دولار شهريًا لتغطية رواتب القطاع العام، مضيفة أن المشكلة لا تقتصر على ضعف رواتب العاملين، بل تطول المتقاعدين الذين لا يزال راتبهم يُحتسب على أساس سعر صرف 1500 ليرة، ما يحرمهم من أبسط مقوّمات العيش الكريم بعد عقود من الخدمة العامة.
“ليس كل موظفي القطاع العام فاسدين، ولا يجوز التعميم” تقول أيوب، فهناك موظفون نزيهون وأصحاب كفاءة قادرون على تحقيق إنتاجية حقيقية، والمطلوب هو إصلاح إداري وهيكلي يعيد الثقة بالإدارة. وتشرح أن المساعدات الاجتماعية تُعامل ضريبيًا كأنها أجر، رغم أنها قانونيًا ليست كذلك، ما يُعدّ ظلمًا مزدوجًا للموظف الذي يُحمّل أعباء إضافية من دون أن تُحتسب له هذه المبالغ في التقاعد أو التعويض. وتقترح أيوب “وضع خطة تمتد على خمس سنوات لرفع الرواتب تدريجيًا على أساس الراتب الفعلي، حتى يصل الموظف إلى نحو 60 ضعف راتبه الأساسي قبل الأزمة، من دون زيادة الضرائب، بل عبر تحسين الجباية وتوسيع قاعدة المكلفين”. مضيفة: “مناطق كثيرة تمّ التعدّي فيها على أملاك عامة ومشاعات تدرّ أرباحًا كبيرة على أصحابها من دون دفع ضرائب أو غرامات”، ما يستدعي تفعيل تحصيل هذه الإيرادات قبل فرض أعباء جديدة على المواطنين”.
حلول تواجه تحدّيات كبيرة
هذه العثرات الكبيرة التي ينطوي عليها مشروع موازنة العام 2026 يمكن أن يتفاداها المجلس النيابي بتعديلات، فما هي الحلول المنطقية لتؤتي الموازنة ثمارها الاقتصادية وبالتالي تصبح إصلاحية؟
تؤكّد أيوب هنا، ضرورة “إعادة النظر بسلسلة الرتب والرواتب لتشمل جميع فئات القطاع العام، من القضاة إلى الأساتذة وموظفي الإدارات والأجهزة العسكرية، بما يحقق المساواة ويمنع الغبن”. وتلفت إلى أن “عدد العاملين الفعليين في الإدارة العامة يبلغ 7,200 موظف فقط من أصل 28 ألف وظيفة، ما يستدعي مراجعة تنظيمية لتحديد الشواغر والوظائف غير الضرورية وإعادة توزيع الموارد وفق معايير أداء واضحة، كما يجب تفعيل دور مجلس الخدمة المدنية ووزارة التنمية الإدارية في إعداد الموازنة وتنظيم القطاع بدل الاكتفاء بالمساعدات الموقتة”.
من جانبه، يقدّم نحال رؤية إصلاحية شاملة ترتكز على:
تصحيح الرواتب والأجور بما يُعيد قيمتها الشرائية إلى ما كانت عليه قبل الانهيار.
إقرار سلسلة متحرّكة للأجور تراعي التضخم ومؤشر غلاء المعيشة.
دعم التعليم الرسمي والمستشفيات الحكومية والضمان الاجتماعي لتوفير الحماية الاجتماعية.
إصلاح النظام الضريبي عبر رفع الضرائب المباشرة على الأرباح والمداخيل الكبيرة إلى 85 % مقابل 15 % فقط على الضرائب غير المباشرة.
استرداد موارد الدولة من الأملاك العامة البحرية والنهرية، وتأجيرها بأسعار عادلة وفق معايير شفافة.
محاربة الفساد الإداري وتعزيز دور القضاء والهيئات الرقابية.
أما جباعي فيرى أنه قبل إقرار أي سلسلة جديدة، يجب إنجاز ثلاث خطوات أساسية: إعادة هيكلة القطاع العام عبر مسح شامل داخل الوزارات للتحقق من الموظفين الفعليين والفائضين عن الحاجة والوهميين، رفع الإنتاجية من خلال التدريب والمكننة والتحديث الإداري، وربط الرواتب بالناتج المحلي والتضخم والإنتاجية عبر سلم متحرك علميّ. ويُحذر جباعي من أن “أي زيادة عشوائية قد تعيد الإنفاق إلى أكثر من 50 % من مجمل النفقات، وهو رقم خطير على الاستقرار المالي”، داعيًا إلى تحفيز النمو الاقتصادي أولًا قبل أي زيادة شاملة.
هذه الاقتراحات على تنوّعها تواجه تحدّيًا أساسيًا يتمثل في عدم قدرة الدولة على تأمين التمويل لهذا الإنفاق الكبير الذي سيُضاف إلى موازنتها. وتؤكّد مصادر في وزارة المالية لـ “نداء الوطن”، أن “الدولة تتراوح في مسارها التصحيحيّ للرواتب والأجور في القطاع العام بين الحاجة والقدرة. فهذا التصحيح لم يعد ترفًا، بل ضرورة إنسانية وإدارية ومالية في آن واحد”.
ومن التحدّيات في هذا الإطار:
ماليًا: “الخزينة تواجه عجزًا مزمنًا وإيرادات محدودة، فيما تبتلع كتلة الأجور القسم الأكبر من الإنفاق العام. وفي ظل غياب الاستقرار النقدي، يصعب تحديد أساس عادل وموحّد لتصحيح الأجور يحافظ على قيمتها الحقيقية”.
أما إداريًا، فـ “المشكلة أعمق”، حيث “إن الدولة لا تملك حتى الآن قاعدة بيانات موحّدة لموظفيها، فيما تتوزع الأنظمة الوظيفية بين إدارات ومؤسسات وصناديق مختلفة، ما يجعل أي إصلاح شامل مهمة شديدة التعقيد”.
وفي السياق يقول مستشار وزير المالية والرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود لـ “نداء الوطن”: “وزارة المالية تعتبر أن تصحيح الأجور والرواتب هو حق لا يمكن تجاهله أو التهرّب منه، إذ لا بدّ من السير بهذه العملية لما تمثله من استحقاق أساسي. غير أن هذا الإجراء يفرض على الدولة التزامًا طويل الأمد، وليس مجرد التزام مرحلي مرتبط بموازنة سنة أو سنتين. ويُوضح حمود أن أي توجه اليوم نحو زيادة الإنفاق أو إقرار زيادات في الرواتب يجب أن يُؤخذ في الحسبان من خلال التأكد من قدرة الموازنة على تغطيتها بإيرادات مستدامة مع مراعاة التزامات الدولة المستقبلية المرتبطة بكلفة الدين العام وأصله”.
إذًا يُجمع أصحاب العلاقة من خبراء ونواب وموظفين على أن موازنة 2026 كرّست واقعًا غير عادل، حيث يدفع الموظفون والمتقاعدون ثمن العجز والفساد وسوء الإدارة. فبدل أن تكون الموازنة أداة إصلاح، أصبحت مرآة للاختلال المالي والاجتماعي. أما الحلّ، فيكون باتخاذ إجراءات سريعة لإعادة الأمور إلى نصابها والنظر في إعادة هيكلة القطاع العام، إقرار سياسة ضريبية عادلة، وتفعيل الأجهزة الرقابية لضمان أن تُصرف الأموال في مكانها الصحيح لمصلحة المواطن، لا على حسابه.
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول “قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية” تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية – CFLI.
