بيع بيانات وزارتيّ الصحة والعدل: الفضيحة أبعد من الخرق
بضعة آلاف من الدولارات قد تكون كفيلة بتزويد أي شخصٍ بالبيانات الخاصة بوزارة العدل اللبنانيّة. إعلانٌ واضح على منصة “إكس” (تويتر سابقًا) يظهر أن ملفات وزارة العدل اللبنانية ليست محصنة بما فيه الكفاية، بل تم اختراقها وتسريبها.. وصولًا إلى حد بيعها على إحدى المنصات بأسعار محددة ولغايات غير معروفة.
اختراق بيانات وزارة العدل؟
منذ أيامٍ، عُرضت هذه البيانات للبيع، وتحديدًا على “أرض الخدمات الخفية” التي يُطلق عليها اسم “DARK WEB”، التي تتيح أمام أي متابع سواء أكان داخل الأراضي اللبنانية أم خارجها، التنقل داخل المواقع السوداء بسرية تامة ومن دون ترك أي أثر. ففي هذا العالم المظلم يتم التداول بالعملات المزيفة وبأنواع المخدرات وبالبيع غير المشروع للأسلحة وبفيديوات شنيعة، وجميع “الخدمات” الممنوعة. هناك، تُباع ملفات وزارة العدل اللبنانية بمبلغ 6500 دولار أميركي. أما المبلغ المطلوب للحصول على بيانات وزارة الصحة اللبنانية فهو 6000 دولار أميركي. فما حقيقة هذا الأمر؟
هذا الإعلان فجّر جدلًا واسعًا داخل الأوساط القضائية، ودفع بالنيابة العامة التمييزية إلى التحرك وفتح تحقيقات موسعة لدى المباحث الجنائية المركزية للتأكد من صحة المعلومات المتداولة. وللحصول على معطيات إضافية، حاولت “المدن” التواصل مع وزارة العدل، وتحديدًا وزير العدل اللبناني، القاضي هنري الخوري، لكنه رفض التعليق على هذا الأمر في الوقت الحالي.
بما يخص وزارة الصحة، أوضح وزير الصحة فراس الأبيض، في حديث لـ”المدن”، أن بيانات الوزارة تعرضت للاختراق منذ حوالى الستة أشهر. ولكن المعلومات التي سُربت هي معلومات عادية وغير مهمة، وتمت السيطرة على الأمر بشكل سريع. لكن الوزير لا يملك أي معلومات ومعطيات جديدة حول عرض بيانات الوزارة على منصة الـdark web بهدف بيعها، ولم تُبلّغ الوزارة بعد عن تعرض بياناتها للانتهاك في الأيام الأخيرة.
تدوين البيانات ورقيًا
ولكن، أثناء التحقق من صحة معلومات بيع بيانات وزارة العدل، تبيّن لـ”المدن” أن هناك “فاجعة” أكبر يعاني منها القضاء اللبناني، بعيدة كل البعد عن مسألة تسريب بيانات خاصة وسرية متعلقة بالقضاء وبيعها في مواقع خاصة، وهي أن نظام المكننة لم يصل بعد إلى وزارة العدل اللبنانيّة، وغير مفعّل كما يجب، والطريقة المعتمدة داخل قصور العدل والوزارة لحفظ البيانات والمعلومات وتسجيل الدعاوى وتيسير ملفات المواطنين وغيرها.. هي الطريقة التقليدية “العتيقة” القائمة على تسجيل المعلومات خطيًا وورقيًا!
وحسب مصدر قضائي لـ”المدن” فإن القضاء اللبناني قام بتفعيل نظام المكننة خلال السنوات الماضية، لكن غالبية المعلومات لم تسجل إلكترونيًا لأسباب كثيرة، كما أن البيانات المسجلة لا تخضع للتحديث في وقتها المحدد، ما يعني أنها معلومات قديمة ولم تخضع لأي تعديل. واعتبر المصدر أن تسريب بيانات وزارة العدل وبيعها هو أمر “غير صحيح”، زاعمًا أن المعلومات الخاضعة لنظام المكننة هي معلومات عامة غير سرية، وجميع ملفات القضاة التي تضم معلومات سريّة ودقيقة تُسجل ورقيًا.
مفاد هذا الكلام، أن التطور التكنولوجي لم يطرق أبواب القضاء اللبناني بعد، وربما ستحتاج وزارة العدل إلى عقود طويلة لتتمكن من تفعيل نظام المكننة إسوةً بباقي الدول المتطورة، حيث أن تسجيل البيانات خطيًا ليس كفيلًا بحماية المعلومات السرية، فمن الممكن أن تتعرض الملفات للسرقة، أو للفقدان (وهو أمر يحصل بشكل دائم داخل أقلام قصور العدل)، وفي حال تعرضت قصور العدل لحريق بسيط، فستُتلف هذه الملفات بسهولة، كما أنها تشكل عبئًا إضافيًا على القضاة والموظفين.
شركات أجنبية
في السياق نفسه، شرح مصدر قضائي لـ”المدن” أنواع البيانات داخل وزارة العدل، وهي مؤلفة من معلومات دقيقة وسرية حول جميع الملفات داخل القضاء اللبناني، أي أنها عبارة عن معلومات تفصيلية وسرية وشخصية حول القضاة، والمحامين، ودعاوى المواطنين، وملفات القضاة ودعاوى الدولة اللبنانية، والاستنابات التي تُحول من الخارج، والمراسلات، والمعاملات..، موضحًا أن البعض منها يخضع لنظام المكننة والبعض الآخر يُسجل ورقيًا.
وردًا على سؤال “المدن” حول الهبات التي وصلت للقضاء اللبناني طيلة السنوات الماضية بهدف إصلاح وتطوير قصور العدل ومكننة الملفات، أوضح مصدر قضائي أن إحدى الهبات تضمنت تقديم بعض أجهزة الكمبيوتر، لكن المشكلة تكمن في العجز الحاصل في مرافق الدولة اللبنانية وتفكك مؤسساته، فقصر عدل بيروت صار شبيهًا بباقي وزارات الدولة ومؤسساتها التي تعاني من مشاكل كثيرة، وأهمها انقطاع التيار الكهربائي المستمر، إضافة إلى حاجة الموظفين إلى دورات تدريبية حول نظام المكننة وغيرها..(يُذكر أن في قصر عدل بيروت أكثر من 5 مصاعد كهربائية، لكن جميع هذه المصاعد معطلة بشكل كامل منذ أكثر من أربعة أشهر، وهي بحاجة إلى صيانة ولكن لم يتم تصليحها بعد بحجة عدم توفر المال اللازم!)
في المقلب الآخر، تشير معلومات “المدن” إلى أن وزارة العدل استعانت منذ أشهر قليلة بشركات أجنبية لمعاونتها في بعض الأمور التقنية. هذه الشركات قدمت خدماتها مجانًا ومن دون الحصول على أي مبلغ مالي من القضاء اللبناني. لأن الدولة اللبنانية مفلسة وغير قادرة على دفع أي مبالغ إضافية. هذه المساعدة المجانية تعني أن الشركات قد حصلت على موافقة بالاطلاع على بيانات وزارة العدل العادية والسرية لتتمكن من معاونتها. لذلك، يُطرح تساؤل لا يمكن التغاضي عنه، وهو “فرضية” أن تكون هذه الشركات قد استعملت بطريقة معينة جزء من هذه البيانات أو قامت بتسريبها لغايات محددة.
عمليًا، لم يؤكد القضاء اللبناني صحة هذا الإعلان وتفاصيله، وحاولت المصادر القضائية نفيه بشكل قاطع بحجة عدم تفعيل نظام المكننة على جميع البيانات. أما وزارة العدل فلم تُعط أي تعليق. لكن في حال ثبت هذا الأمر وتبيّن في التحقيقات أن بيانات وزارة العدل تباع بشكل عشوائي، فيجب التحقق من الـ”DATA” الخاضعة لنظام المكننة التي تم اختراقها. وهذا يعني أن السلطة القضائية في لبنان تعرضت لضربة موجعة واخترقت بياناتها، ومن الممكن أن تكون قد سُربت إلى جهات خارجية كجزء من عملية استخباراتية. خصوصًا أن هذا الإعلان رفع من مستوى القلق تجاه أمن البيانات، وإلى الطرق التي ممكن أن تُستغل فيها. وفي الوقت نفسه، يتطلب هذا الأمر تحركًا سريعًا من الجهات المعنية، أي يتوجب على المدعي العام التمييزي ملاحقة هذه القضية حتى النهاية، للكشف عن تفاصيلها بأقصى سرعة. كما على وزارة العدل (وهي الجهة المعنية الأولى) أن توضّح حقيقة ما يُتداول به، إما التأكيد أو النفي، وذلك نظرًا لحساسية هذه المسألة وخطورتها.
ومع اختراق أنظمة الاتصالات في لبنان، ونظام المعلومات في مطار رفيق الحريري الدولي، هل أصبحت جميع وزارات لبنان مكشوفة؟ فرح منصور – المدن